أسوأ سيناريو للحوار الوطني اليمني الذي انطلق يوم السبت 7/8/2010 بين السلطة وحزبها الحاكم من جهة، وتكتل اللقاء المشترك وشركائه من قوى المعارضة من جهة ثانية؛ هو أن تدور عجلة هذا الحوار بسرعة السلحفاة، ويتضاءل شعور المشاركين فيه بمرور الزمن، ولا يقدرون خطورة ذهاب الوقت بلا إنجاز إيجابي.والسيناريو الأكثر سوءاً من ذلك هو أن تندفع عجلة هذا الحوار بسرعة أكثر من اللازم، فتصطدم بعقبات الطريق، وتتخبط في منحنياته الخطرة، ومن ثم سرعان ما تتوقف، بعد أن تكون قد تهشمت وخارت قواها، وقفز منها من قفز، وأصيب من أصيب؛ فلا هي قطعت أرضاً، ولا هم أبقوا ظهراً.في السيناريو الأول، سيؤدي البطء الشديد إلى إفقاد الحوار مهمته الأولى وهي "فتح باب الأمل"، وكسر طوق اليأس الذي كاد أن يطبق على جميع الأطراف؛ حكومة ومعارضة ومواطنين. واحتمالات وقوع مثل هذا السيناريو واردة، والمؤشرات عليه لا تخطئها العين، ومنها مثلاً مسارعة كل طرف باتهام الآخر بأنه يتلكأ في البدء بالحوار. ومنها أيضاً كثرة عدد أعضاء اللجنة التي تم تشكيلها من 200 شخصية مناصفة بين حزب المؤتمر وحلفائه، وتكتل اللقاء المشترك وشركائه من المستقلين. وقد قلنا منذ الإعلان عن هذا العدد الكبير إنه سيكون أول عقبة في مسار الحوار؛ فكلما زاد عدد المتحاورين، زادت احتمالات التنافر والشقاق، على حساب التقارب والتوافق. وعليه لم يكن بد من تكوين لجنة من 20 شخصية على الأكثر كي تتولى وضع أجندة الحوار، وتحديد قضاياه، وتكوين لجان فرعية تتخصص كل منها في قضية بعينها، أو بند من بنود جدول أعمال الحوار، وتحديد سقف زمني معقول لإنجاز مهمات الحوار. وبالفعل تشكلت لجنة من ثلاثين عضواً مناصفة بين الجانبين، ولكن السقف الزمني بقي مفتوحاً، وبقاؤه هكذا سيكون عاملاً مرجحاً لوقوع هذا السيناريو الأسوأ.مما يثير القلق على مصير الحوار وفق هذا السيناريو أيضاً أن يخفق المتحاورون مبكراً في كسر الحاجز النفسي في البدايات الأولى للحوار. وعندما يعجزون عن فتح أبواب الأمل للخروج من الوضع السيئ إلى وضع أفضل؛ فإنهم يكونون قد قطعوا أكثر من نصف الطريق إلى الفشل المحتوم. ومعنى هذا أن عجلة الحوار إن دارت ببطء شديد فإنها ستجعل جميع الأطراف مشاركة في تكريس حالة الملل، وتعميق الشعور بفقدان الثقة في النظام برمته (حكومة ومعارضة). وسيؤكد البطء أيضاً الهواجس التي أضحت متداولة على نطاق واسع بين المواطنين؛ ليس فقط بشأن عجز النخب السياسية عن إيجاد مخرج آمن من الأزمات التي تئن منها البلاد منذ سنوات، وإنما أيضاً بعدم اكتراث هذه النخب أصلاً بمشكلات المواطن اليمني البسيط. هناك شعور ينمو ـ للأسف الشديد ـ بين عموم المواطنين بأن لا أحد يهتم بهم، وأن أحزاب اللقاء المشترك وقوى المعارضة ليست أقل سوءاً، ولا أحسن حالاً من حزب المؤتمر الشعبي الحاكم وحلفائه.كثير من المواطنين العاديين يشعرون بأن الفجوة بينهم وبين النخب السياسية آخذة في الاتساع، وأنهم باتوا حطباً للصراع على اقتسام النفوذ والثروة والسلطة بين هذه النخب المتشاكسة غير المتوافقة. وكثير من هؤلاء المواطنين يتساءلون: لماذا لا تذوق هذه النخب مرارات الحياة من جراء التداعيات السلبية لعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي يتسببون فيه، وهم عنه أول المسؤولين؟.
في السيناريو الأول أيضاً، سيؤدي بطء الحوار إلى ضمور القواسم المشتركة والثوابت الوطنية؛ لكي تقوى عوامل الاختلاف، وتنمو بذور الانقسام والشقاق. ومن حسن الحظ أن أطراف الحوار انطلقوا جميعاً من الإقرار بالثوابت التي تؤكد على "وحدة اليمن"، و"احترام الدستور"، و"المحافظة على الهوية والوحدة الوطنية" في مواجهة التحديات التي تستهدف البلاد من الداخل والخارج. ولكن كل هذه الثوابت ستكون معرضة للخطر كلما طال زمن الحوار؛ فإطالته تؤدي إلى زيادة فرص الدخول في التفاصيل، وتسهل الوصول إلى بيت الشيطان، الذي يسكن دوماً هناك. وكلما طال الوقت أيضاً، وتثاقلت خطى الحوار ـ بأكثر من اللازم ـ زادت فرصة التدخل السلبي الذي تمارسه الأطراف الكارهة لنجاحه، المستفيدة من استمرار دوامة عدم الاستقرار والعنف بين أبناء الوطن الواحد.السيناريو الأكثر سوءاً لمصير الحوار الوطني اليمني هو الاندفاع بسرعة فائقة، والاصطدام بحائط الفشل بنفس السرعة.
ومؤشرات هذا السيناريو متوافرة أيضاً، وإن كانت أقل حضوراً من مؤشرات سيناريو البطء وتضييع الوقت.البعض فهم اتهامات الرئيس علي عبد الله صالح لبعض قوى المعارضة عشية بدء الجلسة الأولى للحوار، بأنها تماطل في بدء الحوار، وتخلط الأوراق، وتعمل لحساب أجندات خارجية؛ على أنها نداء من أجل التحرك بسرعة نحو ما يريده الحزب الحاكم. والبعض الآخر خشي أن تكون هذه التصريحات مقدمة لجلب قوى المعارضة بأقصى سرعة لتأكل فقط مما أعده الحزب الحاكم على مائدة الحوار.
والاحتمال المثير لقلق بعض المشاركين من قوى المعارضة هو أن يسعى المُؤْتَمَرِيُّونَ إلى انتزاع موافقات من المعارضة تحت سيف التهديد بالفشل الذريع أوالسريع؛ وأن وقوع مثل هذا الاحتمال سيكون على حساب الجميع دون استثناء، وإن كان الخاسر الأكبر هو المواطن العادي الذي يراقب ما يجري في صمت، ونفاد صبر.وقد يكون غياب ممثلين في الحوار عن قوى الحراك الجنوبي أحد مؤشرات الاندفاع فيه بسرعة قبل استكمال مقومات نجاحه. وأياً كان هوية الطرف المتسبب في غياب ممثلي الحراك عن هذا الحوار؛ فإن النتيجة واحدة؛ وهي أن غياب ممثلي هذا الطرف هو واحدة من العقبات التي ستصطدم بها مركبة الحوار، وقد تودي بها؛ وخاصة أن قضية الحراك تمس "وحدة البلاد" وهي من أهم الثوابت الوطنية لدى جميع الغيورين على حاضر ومستقبل اليمن من أبنائه ومن أشقائهم أبناء الشعوب العربية والإسلامية.
لا تبدو علامات التسرع في هذا السيناريو "الأكثر سوءاً" فقط في غياب ممثلي الحراك الجنوبي؛ وإنما أيضاً في تجاهل، أو غياب، ممثلي أهم قوتين فاعلتين على أرض الواقع اليمني على امتداده الجغرافي، وعلى اتساع رقعة نسيجه الاجتماعي؛ وهما "قوة العلماء"، و"قوة شيوخ القبائل". والسؤال المحير حقاً هو: لماذا لم ينتبه تكتل اللقاء المشترك لهاتين القوتين ويدعوهما للمشاركة في أعمال الحوار؟ وكيف غفل عن ذلك "التجمع اليمني للإصلاح" وهو أهم وأكبر أحزاب اللقاء المشترك، وله خلفية إسلامية/ قبلية واضحة، ومع ذلك جاءت قائمة تكتل اللقاء خالية من ممثلين عن "هيئة علماء اليمن"، وخالية من رموز القبائل ومشايخها، في حين أن قائمة المؤتمر الشعبي تضمنت عدداً من هؤلاء وأولئك؟. وكما أن بقاء السقف الزمني مفتوحاً فوق رؤوس أطراف الحوار، يمكن أن يقود إلى ترجيح سيناريو البطء والتراخي، فإنه يمكن أن يؤدي أيضاً إلى ترجيح سيناريو التسرع والاندفاع، والنتيجة واحدة، والفرق سيكون فقط بين ما هو أسوأ، وما هو أكثر سوءاً.ما سبق لا يعني أن "سيناريو النجاح" بعيد المنال عن يد المتحاورين؛ بل ربما هو الأقرب للتحقق في ظل الإدراك المتنامي بين مختلف القوى السياسية اليمنية؛ حكومة ومعارضة، بأن عليهم الأخذ بزمام المبادرة دون استدعاء أي جهة خارجية للقيام بدور التحكيم السياسي بين أبناء الوطن الواحد.سيناريو النجاح هو الأقرب للتحقق لو أن جميع أطراف الحوار وبمقدمتها الحكومة؛ صدقت قولاً وعملاً في التزامها أولاً بالثوابت الوطنية، وباستجماع عوامل النجاح، وأولها استدراك مشاركة ممثلي الحراك الجنوبي، وممثلي العلماء، وممثلي شيوخ القبائل، إضافة إلى مراعاة المسائل الفنية الكفيلة بتهيئة مناخ صحي ومشجع على التوصل إلى توافقات تحقق المصلحة العليا للمواطنين وللوطن. وأن يعلن جميع الشركاء التزامهم بالرجوع إلى الشعب سواء في أقرب انتخابات قادمة، أو في استفتاء عام لإشراكه في الحكم على النتائج التي سيسفر عنها الحوار؛ باعتبار أن الشعب هو صاحب المصلحة الأول، وأنه الذي دفع ولا يزال يدفع القسط الأكبر من فاتورة المعاناة وتكلفة عدم الاستقرار واستمرار العنف وإراقة الدماء. وأيضاً باعتبار أن الشعب "مصدر السلطات" وأنه قادر على تقدير مصلحته، وله حق الولاية على نفسه، وأنه يجب أن تنتهي نزعات الاحتكار والاستعلاء والوصاية والإقصاء، وأن تحل محلها ثقافة المشاركة، والعدالة، والتواضع، والاستيعاب، والتعاون، والإخاء.ليس في تجارب "الحوارات الوطنية" العربية ما يمكن أن نقدمه للإخوة اليمنيين كي يستفيدوا منه، فكلها تجارب فاشلة ومعيبة، وهي "تحفظ ولا يقاس عليها". ولعل ذلك يلقي مسؤولية إضافية على عقلاء اليمن وحكمائه في أن يقدموا نموذجاً ناجحاً في إدارة الخلافات الداخلية بين أبناء الوطن الواحد؛ بعيداً عن وسوسة القوى الخارجية من الأقارب والأباعد. ونجاحهم سيكون نموذجاً يحتذى. أليست الحكمة يمانية؟.
*السبيل الاردنية:
ibayomi@hotmail.com