مع غياب آخر ملامح الدولة، واندلاع الاحتجاجات الشعبية، ومغادرة ممثل الأمم المتحدة يجرجر أذيال الفشل، دخل اليمن امس نفقا مظلما من الفوضى والاضطرابات اثر اصدار ما تسمى بـ»اللجنة الثورية» لجماعة أنصار الله الحوثية «اعلانا دستوريا» من القصر الجمهوري في صنعاء.
وتضمن «الإعلان الدستوري» الذي يفتقر الى اي غطاء او مسوغ شرعي تشكيل «مجلس رئاسة» من خمسة أعضاء ينتخبهم «المجلس الوطني»، وتصادق عليه «اللجنة الثورية» إضافة إلى حل البرلمان وتشكيل المجلس الوطني الانتقالي من 551 عضوا. وذكر أن مجلس الرئاسة يكلف من يراهم أصحاب كفاءة لتشكيل حكومة كفاءات، وحدد الفترة الانتقالية بعامين.
وقال «الإعلان الدستوري» إن اللجنة «الثورية» تتخذ كافة القرارات والتدابير الضرورية لحماية سيادة الوطن والمواطنين، وأشار إلى استمرار العمل بإحكام الدستور النافذ «ما لم يتعارض مع أحكام هذا الاعلان». وتضمن الإعلان الدستوري أن الحقوق والحريات مكفولة وتلتزم الدولة بحمايتها.
ومع تفاقم التعقيد في المشهد اليمني، وتصاعد مخاطر التفتيت والوقوع في حروب اهلية ومذهبية قد تستمر سنوات، ينبغي التوقف عند محطات رئيسية في رصد الأبعاد الأمنية والسياسية والاقليمية لهذا التطور الخطير:
أولا: جاءت تطورات الامس بمثابة حلقة جديدة في مسلسل استيلاء الحوثيين على السلطة في صنعاء، ممثلين في «لجنة ثورية»، رغم أن «مجلس شباب الثورة» كان أول المعارضين لـ «الاعلان الدستوري المزعوم».
ووجه المجلس دعوة عاجلة إلى جميع اليمنيين طالبهم فيها بالوقوف صفا واحدا ضد ما سماه «العربدة الحوثية ومقاومة سلطة هيمنة ميليشيات الحوثي التي تبدو مصرة على المضي بمخططاتها الانفرادية والاستعلائية، في محاولة منها لتغيير هوية البلد السياسية، من طرف واحد في سابقة تاريخية».
وبينما وافق الحزب الاشتراكي، الذي حكم جنوب اليمن قبل الوحدة، على تشكيل مجلس رئاسي، لينضم إلى 9 أحزاب وجماعات أخرى، أهمها الحراك الجنوبي الساعي للانفصال، أعربت أحزاب وسلطات محلية في العديد من المحافظات اليمنية عن رفضها لما اعتبرته «اغتصابا للسلطة» من قبل الحوثيين. وهكذا بدأت ملامح التقسيم السياسي تفرض نفسها على خريطة مهددة بالتحول الى ساحة للصراعات الدموية، خاصة ان الحوثيين لن يتمكنوا من السيطرة على اجزاء واسعة من اليمن مثل مأرب الغنية بالنفط وغيرها.
ثانيا: إن تشكيل «مجلس رئاسي» يديره الحوثيون عمليا، ومن خلفهم طهران، يمنح نظام الملالي في ايران ورقة اضافية في توازنات القوى الاقليمية، لن تتورع عن استخدامها في ابتزاز تنازلات امريكية بشكل خاص في ملفات أخرى، خاصة مع استيلاء الحوثيين على بعض الأجهزة الأمنية التي كانت توفر المعلومات الاستخباراتية اللازمة لهجمات الطائرات بدون طيار. وهذا يعظم الاحتياج الامريكي لتعاون طهران امنيا في ما يسمى بـ»الحرب ضد الارهاب». ومع تكاثر بوادر تفجر الحرب الأهلية والمذهبية قريبا من الحدود السعودية، لن تتوانى طهران عن استخدام هذه الورقة للضغط على الرياض في أزمات ساخنة كانخفاض اسعار النفط والحرب في سوريا وغيرهما. بل ان سيطرة الحوثيين على مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي تمر منه نحو عشرين بالمئة من التجارة الدولية، يتيح توسع «نطاق الابتزاز وربما التهديد الايراني الى أبعد من ذلك.
ثالثا: إن استكمال الحوثيين انقلابهم بالأمس يثير علامات استفهام حول أدوار الامم المتحدة والقوى الاقليمية والدولية تجاه الازمة اليمنية. اذ بدا فشل المبعوث الجزائري للأمم المتحدة جمال بن عمر لكثير من اليمنيين، وكأنه وفر الغطاء الاخلاقي مرحليا لاستيلاء الحوثيين على السلطة. خاصة انه استمر في التعامل مع جماعة أنصار الله الحوثية كـ «قوة سياسية» حتى بعد ان استولت على القصر الجمهوري، وخطفت مدير مكتب الرئيس الشرعي عبد ربه هادي منصور، وحاصرت بيوت كبار المسؤولين، وهي أعمال لا يمكن ان توصف الا بأنها انقلابية وارهابية، حسب مقاييس القانون الدولي. أما الولايات المتحدة والدول العربية الرئيسية المعنية تاريخيا بالأوضاع في اليمن كالسعودية ودول الخليج ومصر، فكانت مغيبة بالكامل عن المشهد، وعاجزة عن التأثير فيه. ويبدو ان هذا الواقع لن يتغير في المستقبل القريب.
واخيرا فان غياب دولة عربية اخرى في غياهب الفوضى والاضطرابات وربما التقسيم والحروب الاهلية، لا يمكن الا أن يكرس مرحلة غير مسبوقة من الاهتراء العربي، وينذر بامتداد النيران الى اثواب الآخرين.