أحتاج إلى وطن، من مثلي يحتاج إلى وطن..؟!.
هكذا حدّثت نفسي وأنا أستقبل عاماً جديداً، استجمعت لاستقباله ما تبقّى مني، وعقدت اجتماعاً طارئاً معي، لعلّي أصل إلى مصالحة شاملة بيني وبيني، وبالفعل كان حواراً شاملاً ناقشنا فيه كل المشكلات العالقة، ابتداءً من الشعور بعدم الانتماء إلى هذا الوطن، وانتهاءً بعدم الانتماء إليّ.!!.
من مثلي يملك في داخله هذه الرغبة بالاستقرار في بقعة أرض يشعر أن لها من السيادة ما يجعله آمناً مطمئناً، وأن لها من السيادة ما يمنع قتل واقتتال أبنائها بين أحضانها، وأن لها من الهيبة ما يمنع إهانة أبنائها في بلاد الغُربة، وأن لها من الشرف ما يمنع أبناءها من المتجارة بعرضها..؟!.
أحتاج إلى وطن لا يتحدّث الغرباء بلسانه، ولا يتحدّث بلسان الغرباء، وطن أنا لسانه وقلبه، أنا وسيلته وغايته.. لماذا يتلاشى شعورنا بالانتماء إلى هذه البقعة من الأرض مع كل يوم يمر علينا فيها..؟!.
هل بسبب الفقر الذي يرسم كل يوم ألف حكاية أسى وأنين وجوع على وجوه الأطفال وآبائهم، ويجعل من حدود دولة شقيقة - ليس لها من هذا المسمّى سوى الوجع - هي المنفذ والأمل الوحيد للهرب من شبح جوع يقتل بلا رحمة، وأمل في أحلام كثيرة تتحقّق بعصا سحرية اسمها «الريال السعودي»..؟!.
ومع ذلك ينقلب إليك البصر الحالم خاسئاً وهو حسير، وتعود الأحلام كوابيس وجع وأسواطاً من الإهانات التي لا تفتأ تترك جوانب الروح مثخنة بجراحات لا تندمل ولن تندمل.
وكيف لأوجاع الروح المهانة والمنتهكة كرامتها أن تبرأ جراحاتها، وكيف لقلوب شربت من كؤوس الذل والتجريح أن تشعر بالانتماء..؟!.
أم أن الشعور بالانتماء إلى هذا البلد يتأتى من أوضاعه الأمنية المتخلخلة المتهالكة والتي تباشرنا كل صباح بخطابات نعي وجنازات متناثرة وجثث لم تعد لكثرتها تعني لنا سوى أنها جثث كانت فيها أرواح من أمر ربّي ثم سُحقت، بل إننا لم نعد نهتم لماذا وكيف وماذا ومن، فقد كثرت وصارت من المسكوت عنه والذي يدخل في قائمة «إن يبدُ لكم يسؤكم»..!!؟.
أم لأن كل مقوّمات الحياة العادية لم تعد تجد لها مكاناً فيه، لا ماء يمكن أن نجده متاحاً في أي وقت نشاء بحجّة أن حوض صنعاء سينزف، وحوض تعز مهدّد، ومواطنين يتجرّعون المشقة..؟!.
وحين نتحدّث عن الكهرباء كمقوّم من مقوّمات الحياة العصرية، يأتيك الخبر اليقين من مأرب: “المحطة دخلت في الخدمة، المحطة خرجت من الخدمة” كأنها “انجلينا جولي” وصفعونا بأسماء لا أعتقد أن الله سبحانه وتعالى سيرضى عن أصحابها؛ ليس لأنهم ينتهكون حُرمة تلك المحطة المضروبة فقط؛ بل بسبب أسمائهم، لذا لن يغفر الله لهم مرتين؛ مرة لأن أسماءهم “كلفوت وكعلان وجحران” وأخرى بسبب عذاباتنا نحن الذين نُعذّب بهم مرتين، فمن أين سيأتي الانتماء إلى وطن كهذا..؟!.
وإن تحدّثنا عن «النت» كأعظم صيحة في عالم العلم اليوم؛ فلا أدري في أي درك من نار جهنم سيهوي بنا الله تعالى، لذا يجب ألا نتحدّث عن مشاكلنا مع «الانترنت» ويعدُّ ناقل الكفر كافراً في مثل هذه الحالة.
وإني أسأل الله تعالى أن يغفر لي إزعاجي «لعكام» الذي بات يتلقّى اتصالاتي كلما انقطع الخط وتلاشى، وكأنه هو «يمن نت» ونتحدّث عن انتماء، وتأتيك تباعاً أزمة «البترول والديزل والغاز» والضمير والوطن والمواطن.
أحتاج إلى وطن أهرب إليه؛ أذوي بين أحضانه وأذوب كقطعة ثلج هربت من صقيعها إلى الدفء، بكل ما فيني أحتاج إلى وطن يلملمني ويجمع شتاتي ليصنع مني «عقداً» لا حبّات رصاص..
فمن مثلي..؟!!