لكل شيء يُمارس مؤهلاته وشروطه، فلا شيء يُمارس جزافاً.. حتى الكذب، ومن الأمثلة العربية التي تحمل النصيحة -وإن لغير المرغوب في تصرفاته- قولهم: «إن كنت كذوباً.. فكن ذَكُوْراً» وهكذا ينصحون من استمرأ الكذب وانتهجه أن لا يفعل ذلك إلاّ إذا ما كان ذَكُوْراً - أي يتمتع بذاكرة جيدة- حتى لا يخطئ ويوقعه النسيان في فضيحة كذبة تتناقض مع كذبة سابقة أشاعها بين الناس، فيسخرون منه ويفقد ما كان يعود عليه من كذباته، أو يروّج له..
هكذا رأى أسلافنا من قبلنا أن القيام بأي شيء، له ضوابطه وشروطه، وأن ليس هناك باب مخلوع -كما يقال: حتى باب الكذب رغم استقباحه وذمامته.. فقالوا: «إن كنت كذوباً.. فكن ذَكُوْراً» فهل يعني هذا أن على البليد أو صاحب الذاكرة الضعيفة أن لا يكذب..؟!
بما أن الزمن كفيل بتغيير كل شيء -وإن لم تقم ثورات وانتفاضات- فإن ذلكم التغيير الحتمي، قد أضعف المقولة المشار إليها أو المثل السابق الذكر، وسهّل للكذوب أن ينغمس في كذبه وأن يمارسه حتى وإن كانت ذاكرته ضعيفة أو يعاني قدراً من الغباء، فقد سهّل العصر أرشفة وحفظ ما حبكه وروّج له الكذوب، الذي صار بإمكانه أن يعود إلى أرشيفه الكاذب أو ما روّج له من أكاذيب حتى في جهاز الهاتف الذي يحمله، وبالعودة إلى المواقع الالكترونية أو الصحف الورقية التي بث من خلالها كذباته..
وإذا ما سلّمنا -من خلال ما أشرنا إليه من جديد العصر وخدماته- أنه لم يعد الكذوب الذي وسّع من نطاق ممارسته أو كذبه بانتهاجه أو احترافه مخاطبة الرأي العام، لم يعد بحاجة لأن يكون ذَكُوْراً.. فإن هذا لا يجعل الباب مخلوعاً أمامه أو يعفيه من التقيّد بشروط وضوابط ما اختار ممارسته.. إذ صار على الكذوب في عصرنا أن يكون ذكيّاً كما يمكننا أن نغيِّر في المثل السابق ليصير هكذا «إن كنت كذوباً.. فكن ذكيّاً».
وعندما نجد أمامنا سؤالاً يقول: ولماذا ينبغي أن يكون الكذوب ذكيّاً؟! فإن الإجابة تقول: بل عليه أن يكون أكثر من ذكي وحاذق، لأن جديد العصر وإن كان قد أنقذه من الوقوع في التناقض مع كذباته السابقة -بسهولة العودة إلى أرشيفه- فإنه قد أوقعه في معضلة أكبر وأدهى، هي أنه صار يخاطب رأياً عاماً لا أفراداً أو جماعة، وأن هذا الرأي العام الذي يخاطبه عبر كتاب أو صحيفة أو موقع الكتروني أو مقابلة تلفزيونية يوجد فيه من هو أذكى وأعرف وأوسع اطلاعاً من ذلك الكذوب الذي يخاطبه..
على الكذوب في عصرنا -إن كان يخجل أو يستحي- أن يتعب كثيراً ويبذل مجهوداً كبيراً، كي يتمكن من حباكة كذبة يتوهم أن يصدقها من يستهدفه أو تنطلي عليه، وأن لا ينسى الكذوب أن الأرشيف السهل الذي خدمه، قد خدم غيره من الناس، ومن يستهدفهم بافتراءاته، إذ صار بمقدور أي متابع ومهتم أن يعود إلى ما يفضح به المفترين -وإن بعد سنوات وعقود- بالوثيقة وبالصورة والصوت، وكل وسائل الفضح والإدانة.
لا يمكن لكاذب أو كذوب في هذا العصر أن يمرر ما يريد بسهولة ويُسر، حتى عندما يعمد إلى أسلوب «ليّ عنق الحقيقة» كما يقال، فهذا الأسلوب صار الأسهل والأوهن أمام أشعة كشف المغالطات وإظهار الحقيقة.
نقول هذا لا نُصحاً للكذوب ولا حرصاً عليه.. ولكن حرصاً على قيم ومبادئ وأخلاقيات يستهدفها من يُكتبُ عند الله كذاباً، بغرض إيقاظ فتنة أو إثارة نعرة، أو يخدم نفْعِيَّةٍ مُنحطة، أو مخططاً خارجياً، نعرف جيداً أن النصح لا يجدي مع الكذوب، فمن كُتِبَ عند الله كذاباً لا يستحي.. ومن لا يستحي يصنع ويفعل ويقول ما يشاء، وما نُصحنا له بالقول: «إن كنت كذوباً.. فكن ذكيّاً» يأتي من قبيل تنبيهه إلى خطورة استغفال المُتلقي، والكف عما يفعل بتوبة تطهّره، لأن ما يتوهمه أو يعمل على الترويج له لم يعد ينطلي على كل ذي عقل ومعرفة.
شيء من الشعر:
أقْسمُوا
فوجَدَنَاهُمُ يَفْجُرونَ كما ينكثون
وعَدُوا
فوجدناهُمُ يخلفُون كما يغدرون
اشتروا ألْفَ بوقٍ
لكل فَمٍ يُطعِمون
وبهِ يبصقون
قَبْل أن يستعيروا أنيابَهُ
ينهشوُنَ بِها لحْمَ من هُمْ لَهُ مبغضون
في الإثنين 05 مايو 2014 08:55:10 ص