|
تُصنّف الدموع إلى صنفين: ساخنة، وباردة، أولاها هي دموع الحزن، أما الثانية فدموع الفرح، وفي إطار هذين التصنيفين تتنوع دلالات ومعاني الدمعة المتلألئة أو الساقطة من العين إلى دموع حزن وتوجع وألم ودموع فرح ومحبة وتأثر إنساني، وشعور بالندم، وخشوع يطلب المغفرة، ودموع خوف من عقاب أو فقدان عزيز.. إلخ..وكما للعيون لغتها، للدموع لغتها ودلالاتها المعبرة كتلك الحالة من الألم والشعور بالذنب والخطأ التي عبر عنها الشاعر بقوله:
«إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربى فسالت دموعها»
نعم، ينزغ الشيطان بين أبناء البلد والمجتمع الواحد، مستغلاً شهوة مال أو سلطة، فيرتكز قرنه بالبغضاء والشنآن والتعالي ونزعة مصادرة حق الآخر، فتعلو أصوات التهور على صوت العقل.
وتقرع طبول الحرب في وجه حمامات السلام، الذي تسقط أغصانه بحد السيوف التي ارتفعت للاقتتال وتخضبت بالدماء، وبالرغم من كل ذلك، لابد أن يأتي اليوم الذي يحمل معه المتغير القادر على إعادة السيوف إلى أغمادها، أو المدافع إلى ثكناتها، ويتذكر الإخوة اقتتالهم وسفكهم لدماء بعضهم، وهم الأهل والأقرباء والشركاء في الوطن، فتسيل دموعهم تعبيراً عن ندم ورجوع إلى حق.
أما متى يحصل هذا الندم وتسيل دموعه، وتذكر القربى التي أنساهم إياها الشيطان، فعندما يعرف الإخوة ـ الذين اقتتلوا ـ أن الحرب هي ما ذاقوه وعرفوه، واكتووا بناره، ويجلسون للحوار، والتباحث الجاد المجرد عن العناد وتغليب الأنانية والمصلحة على كل ما هو شيطاني.
لقد جزم صاحب البيت الشعري ـ المشار إليه ـ بحتمية تذكر القربى بعد الاقتتال، وأن تسيل دموع الندم والمحبة بعد سيلان دماء البغضاء والحقد، واجتهدتُ أنا في الإجابة على: متى يحدث ذلك؟.. وهكذا تأكد لي من خلال تجاربنا وما مررنا به خلال نصف قرن مضى؛ إذ لم نحترب يوماً بل احتربنا واقتتلنا مراراً ولأيام وشهور وسنوات.
احتربنا واقتتلنا وألحقنا بأنفسنا الأذى وببلدنا الدمار من العام 1962ـ 1967م كملكيين وجمهوريين، وفعلنا الشيء نفسه في حروب أخرى كحروب شطري الوطن وحرب أغسطس «في صنعاء» ويناير في «عدن» وحرب الجبهة الوطنية، وحرب 1994م، وحروب صعدة، وغيرها من الحروب التي لم يكن فيها غالب ومغلوب، والتي لم تحسم أو تتوقف بغير الحوار وتذكر القربى والأخوة والشراكة في الوطن والمصير.
ليست تجربة ولا ثلاث ولا خمس، بل كل تجاربنا تؤكد لنا أن جميع حروب الاقتتال التي خضناها أو بلينا بها انتهت بالحوار والمصالحة وتسامح تذكر القربى، ومن الحماقة بل من الفضول أن نخوض تجارب أخرى ولا نستفيد ولا نتعظ مما سبق.
ما أحوجنا اليوم ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى التأمل الفاحص في دروس وعبر يمتلئ بها تاريخنا ـ قديمه ومعاصره وحديثه ـ واستلهام ما يحتمه الواقع المعاش.
كم نحن بحاجة لأن تسيل دموعنا من أجل دم يسفك بكل وحشية وطيش وبكل أنواع سفك الدماء ـ من الاقتتال إلى التفجيرات إلى الاغتيالات إلى آخر القائمة ـ وما أحوجنا اليوم لدموعنا ونحن نرى أطفالنا ونساءنا وأمهاتنا.. ونتذكر الأيتام والأرامل والثكالى..!
أما آن لدموعنا أن تسيل من أجل وطن حافظ عليه وصانه الأجداد، نقي من التعصبات والنعرات المذهبية والطائفية والعرقية، ونراه اليوم ينزلق ـ بقيادة التعبئات الخاطئة ـ نحو أحقادها وضغائنها وحروبها، وتلحقه به من تمزق وانهيار وإهدار لمقدراته..!
لا طريق سوى الحوار، ولا مخرج سوى المصالحة، ولا جبر للضرر إلاِّ بالقبول بالآخر والاعتراف الكامل بحقوقه المشروعة ديناً ودستوراً، ولكم يخجل المرء وهو يقول مثل هذا الكلام أمام من هو أعلم وأدرى وأكثر خبرة ومقدرة على قراءة الواقع اليمني واستنباط ما قد يأتي به إن ظللنا نسير في الطريق نفسه.
في الإثنين 14 يوليو-تموز 2014 08:49:07 م