سيرة الخراب والحيرة والرحيل
كاتب/فتحي أبو النصر
كاتب/فتحي أبو النصر
صادفت نازحين من حرب عمران أمس، وشعرت بالخجل من ثبات نظراتهم الطيبة والشهمة المكتظة بالفقدان والذعر، «أقول هذا قياساً بالأمان النسبي الذي نعيشه في صنعاء مقارنة بعمران طبعاً ، مع أن العنف في اليمن صار مجانياً وعبثياً وفوضوياً ومفاجئاً في كل الجهات كما ندرك». 
المهم : كنت أنهيت شربي لشايي المفضل في بوفيه بالدائري، شارداً وشبه مكتئب، حين أشر لي ثلاثة أشخاص من على متن سيارة صالون، ليستسمحونني قليلاً من الوقت من أجل إيضاح أماكن عديد عناوين يحتاجونها في العاصمة بسبب مرحلتهم الجديدة كغرباء ومشردين . 
 سريعاً ما اكتشفت أن هؤلاء ضمن قافلة من 18 شخصاً غالبيتهم أطفال تقلهم 6 سيارات تقف تباعاً خلف سيارتهم، و بمجرد حديثي مع السائق والراكبين بجانبه ومصافحتهم لي بعد ترجلهم وتشعب الحديث، خرج من كانوا داخل بقية السيارات ليصافحونني واحداً واحدا ً« حتى الأطفال»، ثم تفرقوا في المحيط القريب، إما للراحة من السفر أو التدخين أو للتبول في مسجد مجاور، أو للتبضع من دكانة قريبة، أو لتغيير أوعية طفل تقيأ عليها، أو لطلب ساندويتشات وشاي من ذات البوفيه « هكذا لكأنما من خلال ودي وتقديري لمعاناتهم والاسترخاء في خدمتهم فقط تخلصوا بجدارة من قلق رهيب وملغز -هكذا أحسست حينها -كان يثبطهم عن الخروج الطبيعي من السيارات والتحرر ما أمكن لقضاء عديد حاجات إنسانية ماسة وملحّة.. قبل أن أفهم وبعمق أنها سلوكيات عصابية طبيعية جراء ما تخلفه الحروب في نازحين يدخلون مدينة كبيرة لا يعرفونها ، فيما يبدو معلوماً ما تحدثه الحروب من صدمات وانفعالات غير طبيعية في ضحاياها... إلخ »، وإذ مكث أصدقائي الثلاثة لمواصلة استفساري ونقاشاتنا، كنت لمحت بجلاء داخل السيارات إياها كومة نساء وأطفال ومستلزمات منزلية نقلوها معهم كنازحين، في حين لا يقدر العالم كله بالتأكيد تعويض ما خلفوه بعدهم من ذكريات جمة شكلت أثراً عالياً في وجدانهم، ولقد كان« سنان وجابر وعبد السلام» أكثر من في القافلة نباهة ووعياً ، فيما علمت لاحقاً - كما خمنت- أنهم أكثر من في القافلة على علاقة جزئية ومحدودة بصنعاء وأجواء المدينة مقارنة والآخرين الذين يدخلونها أول مرة بحيث لمست فيهم ارتباك القرويين الأليفين ووحشتهم المتحفظة. 
« يعني .. زنجبيل بغباره كما يقول المثل»، والحاصل أنني خلال دقائق خمس على الأرجح سمعت من « سنان وجابر وعبد السلام» رؤى عميقة عما حدث في عمران، بحيث كان كلامهم مؤثراً وحميماً وتلقائياً تغمره حرارة الصدقية والأسى والخوف من المستقبل، كما أنني في غضون المشهد كنت أشعر بتفاهة الصحفي لو قمت بتصويرهم مثلاً، ذلك أنهم من النوع العزيز المكابر كما تجسدوا لي بوضوح من سيماء وجوههم ومن جوهر قلوبهم على الرغم من كل الأهوال والانكسارات والظروف الصعبة التي طالتهم بسبب جنون الحرب وهوس مريديها. 
بصريح القول: كان ينبغي لحدسي أن يقودني إلى ضرورة عدم إخراج كاميرتي من حقيبة الكتف خشية من أنها قد تجرح قلوبهم المجروحة بما يكفي أصلاً. 
 والثابت أنني وجدتني أكبرهم جداً على مسلك الاعتداد الشخصي كمتماسكين من الداخل في ظل الخراب الذي أثخن أحلامهم الشخصية بصفتهم مواطنين كانوا يأملون من الدولة أن تكون فوق كل الأطراف ومرجعية عليا للجميع، لا كوسيطة بين طرفين كما ظهرت، ما يعني أن طرف الغالبية العظمى من الشعب له الله فقط «هكذا قال جابر معبراً عن ثقته بالله الذي لا يخذل وموضحاً» خرجنا بأطمارنا وتركنا جربنا وبيوتنا للدانات»، وكذلك أكبرتهم أكثر على نبالة الوطنية غير المشوهة وحس الإنسان الرفيع في وعيهم النقي الذي تعرض لانهيارات مكثفة ما ظهر لي بوضوح عبر أجوبتهم على أسئلة سريعة لي بخصوص الغاز الحرب وتداعياتها . 
والأرجح أنني لن أنسى ما حييت عبد السلام وهو يختم حديثه بالقول: «مية إبرة ما تقع شريم يا أخي» ولا قولة سنان وهو يشكرني. 
« والله ما في جهنم عمران كوز بارد» كمقولتين نابعتين من صميم الثقافة الشعبية ذات المدلولات الغنية في توصيف أوجه المعاناة وسيرة الخراب والحيرة والرحيل. 
استطراداً : سأتذكر على الدوام كيف كان هؤلاء العابرون المتلفون لطفاء ومهذبين أكثر من اللازم، أنا الذي لم يكن في شعوري عقب مغادرتهم إلى خوض غمارات القدر المجهول سوى السخط على كل شيء في هذه البلاد، على كل شيء بدون استثناء، من المؤسسات الرسمية والمدنية حين تتقاعس عن فرض إرادتها الأخلاقية والوطنية لفض نزاعات العنف والحروب كما ينبغي«ما بالكم بعدم وضعها تدابير حمائية وضامنة ولائقة من أجل عدم انتهاك حقوق الإنسان، وحتى لا تكون النتيجة الأسوأ عدم صون نازحي الصراعات المدمرة وعدم جبر ضرر البسطاء... إلخ»، مروراً بكل من يؤججون طيش الحروب ورهاناتها الخاسرة ، وبالذات أولئك الذين لا يعملون من أجل تعزيز السلام واحترام الإنسان للأسف، إضافة إلى كل من يهتكون الضمير الوطني بتكريس مهانات وإذلالات الحروب للمجتمع وللدولة .. بتوصيف آخر وأكثر دقة كان شعوري مندلعاً بالسخط على كل الأشرار والأوغاد في هذه البلد الذين ينكشفون كما لو أنه لا ينقصهم- بحسب جملة من الوقائع والمواقف - إلا الابتهاج علانية وبكل وقاحة وعجرفة وانحطاط بآلام وأحزان وفواجع الضحايا على اعتبارها إنجازات متميزة ومتفوقة جراء سعادة انغماسهم في السلاح ومعطيات لغة السلاح ومآسيها الرهيبة على الأفراد والدولة والأنسجة الاجتماعية .  
fathi_nasr@hotmail.com 


في الخميس 17 يوليو-تموز 2014 03:16:01 م

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=1522