|
كنت في الأول ثانوي والطريق من حيث أسكن في وادي المدام خلف مدرسة ناصر الابتدائية إلى الثورة الثانوية الملاصقة لشارعي المصلى وجمال عبدالناصر يستغرق أقل من عشر دقائق. وكنت أتعمد أن لا أحضر طابور الصباح، فالدقائق العشر تكفي لأدخل الفصل قبل مدرس الحصة الأولى، وهكذا اعتدت الخروج من المنزل في السابعة وخمسين دقيقة.
لم أكن أتغيب عن المدرسة أو التأخر، لكني فعلت في أحد الصباحات وكان الأمر مبعث حرج لي أمام مدرس الكيمياء، وهو شاب سوري أنيق، متمكن من المادة، بارع في وسائل الإيضاح وصبور على من يحتاج من الطلاب إلى مزيد شرح وتفصيل، حريص دائماً على مسافة كبرياء تحفظ له الاحترام والتبجيل.
تذرعت بالنوم وكنت منقبض النفس شارداً لم يغادر ناظري ذلك المشهد المريع الذي سبب تأخري. بعد انتهاء الدرس لحقت بالمدرس في الرواق وأخبرته بما رأيت، فعبر عن اشمئزازه بتكشيرة من وجهه وقال: «شو اللي خليك تشوف هيك.. والله ماراح تنسى ها المنظر طول ما أنت عائش» والحال أنه بينما أنا على مقربة من الباب الكبير شاهدت جمعاً متحلقاً في الجولة التي يتعامد فيها شارع التحرير مع شارع 26 سبتمبر، ثم عرفت أنهم في انتظار تنفيذ حكم إعدام في شخص ارتكب جريمة قتل، أخذني الفضول ووقفت متأبطاً دفاتري وانتظرت، وجيء بالجاني وأنزل من صندوق السيارة المكشوف مكبلاً بالقيد، شاب مكتنز، قوي البنية، مربوع القائمة، بوجه دائري عليه آثار جدري. قرأ القاضي الحكم والرجل يستمع برباطة جأش وبعد النطق بالإعدام أجلس مقعياً محنياً رأسه، ثم رأيت السيف يرتفع والرأس يطير دون أن ألحظ الزمن الفاصل بين علو السيف والرأس، وشعرت بدوار وغثيان ورحت أتمم مسيري. ومن تلك اللحظة صرت لا أطيق رؤية السيوف والسواطير وأتطير من مناظر الدماء والجثث ولا أتحمل مشاهدة رأس حيوان مقطوع، ولعلي لذلك أنفر ممن يذكر أمامي أنه أكل رأس خروف على الغداء أو أنه فطر على مخ. وقبل أيام أكرهني ابني الغاضب من فاحشة حضرموت على رؤية ما لا أحب: رجل القاعدة الملتحي يحمل في إحدى يديه رأساً بشرياً، بينما يرفع الأخرى مغمورة بالدم، ولا أدري كيف استطعت أن أتوقف ثانية أو اثنتين لأرى آثار الجز، فيما أظنها عروقاً وبلعوماً وقصبة هوائية. لكني وأشهد لله لم أزل منذ تلك الساعة أسير فاجعة توقظني عند النوم. وصباح هذا النهار، حيث أكتب عند الرابعة عصراً زرت صديقاً بمكتبه في وزارة التعليم العالي واستقبلني ضاحكاً متهكماً: أهلاً بالإخوان المسلمين، ولأن لدي ظنوناً أنه ميال إليهم وربما شككت أنه كان واحداً منهم ذات يوم فقد قلت له: «إنك ترحب بنفسك» وذهبنا في حديث عما جرى فأخبرني أنه هو الآخر يفز من نومه ثم عاد وقال: إن الحوثيين يفعلون مثل هذا. قال كذلك إن مثل هذه الرؤوس تقرّب بها الإخوان المسلمون للرئيس علي عبدالله صالح مطلع الثمانينيات، وإن الجبهة الإسلامية التي شكلت لمحاربة الجبهة الوطنية الديمقراطية جزت رؤوس قتلاها وحملتها إلى دار الرئاسة عربون تحالف. ولم أصدق أو لعلي أحاول أن لا أصدق، فما هو ثابت أن الجنود يقتلون في الحروب وأما التمثيل بجثث القتلى فمن النادرات في التاريخ، ولم يلجأ أحد من المحاربين إلى التمثيل بضحيته وحمل رأسه إلى عدوه إلا حين يكون الغضب البرهنة لرئيسه، على أن مصدر الخطر عليه قد زال وانتهى، وذلك فعل عبدالله بن زياد بإهداء ابن عمه يزيد رأس الحسين والحجاج الذي أعطى عبدالملك بن مروان رأس عبدالله بن الزبير.
غير هذا فما من أحد قتل خصمه ذبحاً إلا ما يروى عن خالد القسري عامل هشام بن عبدالملك في الكوفة حين ذهب الجعد بن درهم في المسجد الجامع، لأنه كان معتزلياً أو كما قال القسري بأن الجعد يقول بأن الله ما كلّم موسى تكليماً ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، كناية عن قول المعتزلة بخلق القرآن بخلاف الأشاعرة الذين يعتقدون بقدمه.
وقد ذكرت زستاذي في المدرسة إذ أتذكره مع كل صورة للقتل، ويوم تناهت إلى أسماعنا- دون أن أحاول رؤية الصور- أفاعيل الجماعات الإرهابية في سوريا وما قاموا به من أكل الأكباد وانتهاك الحرمات، قلت في نفسي: أيكون ذلك الأستاذ حياً حتى لا ينسى البشاعة ما بقي له من العمر أم أن الله حمى حسه المرهف وحساسيته المفرطة بالموت المبكر.
غير إني وأنا أتابع ما تفعله داعش «وهي مختصر الدولة الاسلامية في العراق والشام» باليزيديين أشعر أن هؤلاء الأخيرين «اليزيديين» وهم عبدة الشيطان فيما يقال يتفوقون أخلاقاً وإنسانية عن أولئك الذين يتقربون بدمائهم إلى الله. ومن بعد فإن القتل يستوي أياً كانت الطريقة، والفارق فقط في مدى استفحال الحقد والمرض النفسي. وبهذه بالذات يبدو النازيون أقرب إلى الرحمة ممن يعتقدون أنهم المسلمون، لأن الإعدام بالغاز يدخل الضحية في سلام نفسي ونشوة روحية مبهجة في الدقائق التي ينتقل فيها من الحياة الى الموت. ذلك ان كان غافلاً عما يكاد له.
أياً ما كان، ولأن الحديث قد جاء عن النازي فإنه يضع همزة وصل بين الجماعات المتطرفة «القاعدة وداعش وأضرابهما» بالمؤسس الأول للتكفير وقتل الخصوم في هذا العصر. فمنذ أشهر قليلة حمل لي من القاهرة ابن أخي المهندس عيسى محمد عبدالله آخر مؤلفات الدكتور رفعت السعيد وعنوانه «تاريخ الجماعة». ورفعت السعيد باحث ومؤرخ مدقق له مؤلفات عديدة عن تاريخ الحركة الوطنية المصرية وتاريخ الحركة العمالية وعن قادة سياسيين مصريين، بينهم مصطفى النحاس وحسن البنا، والجديد في الكتاب الأخير «تاريخ الجماعة» وثائق عكف عليها وصوّرها في مكتبة المتحف البريطاني بلندن وتضم رسائل من الملحق السياسي في السفارة الألمانية بالقاهرة عن اتصالاته بحسن البنا يقول فيها: إنه سلم المبلغ المالي المرسل إليه وإن البنا يطلب المزيد. وكانت هذه الاتصالات قد تمت بناء على رغبة البنا في التعاون مع الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية وحينها أشاع الإخوان وكتبوا أن هتلر قد أعتنق الإسلام وأدى فريضة الحج وأصبح اسمه محمد هتلر، وأنه يعمل على تحويل الألمان شعباً مسلما،ً ورأوا بناء على ذلك أن ترسل مصر إلى ألمانيا من يعلّم شعبها اللغة العربية وغير هذا من الأساطير التي ما انفك الإخوان ينسبونها عند الحاجة على غرار مؤسسهم. حدث هذا في وقت كانت تتلقى الجماعة أموالاً من الحكومة البريطانية عبر شركة قناة السويس بدءاً من تمويل السفير البريطاني عمارة أول مسجد أقامته الجماعة في مدينة الإسماعيلية عقب تأسيسها. وكان من ضمن الخدمات التي قدمتها الجماعة إلى الألمان اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر في 1944. والحكاية أن خلافاً نشأ حول الموقف من الحرب بين أحزاب مصرية متعاطفة مع الألمان ضد الانجليز، كونهم يحتلون مصر وأخرى مستعدة لقبول الضغط البريطاني لإعلان مصر دخولها الحرب في صفهم. ومن هنا كان إنذار السفير البريطاني للملك فاروق في 4 فبراير 1942 بإقالة حكومة علي ماهر المؤيد للألمان وتكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة، لكن وفي 1944 عندما لاح انتصار الحلفاء وأعلنوا العزم على عقد مؤتمر للدول المنتصرة في سان فرانسيسكو التي تأسست فيه هيئة الأمم المتحدة قررت الحكومة المصرية برئاسة أحمد ماهر إعلان الدخول في الحرب ليتسنى حضور مصر المؤتمر كدولة مشاركة فيها لكي تطلب الاستقلال من بريطانيا. وقد رأى المصريون أن إعلان الحرب على ألمانيا وايطاليا سوف يضر مصالح رعاياهم في الدولتين وأن السبيل إلى انضمامهم كطرف في الحرب هو إعلانها ضد اليابان، حيث لا رعايا لهم ولا مصالح.
وبعد الاجتماع الذي حسم القرار كي يحمله رئيس الوزراء إلى البرلمان تقدم منه شاب في بهو مبنى رئاسة الحكومة وقتله. كان هذا الشاب محامياً يعمل في مكتب كبير للمحاماة يرأسه عضو في الحزب الوطني، وقد قبض عليه وحوكم وأعدم دون أن يعترف بالجهة التي حرضت، ولقد ثارت الشكوك حول علاقة الحزب الوطني بالجريمة إلا أنها اصطدمت بعدم وجود بينات او سوابق عنف للحزب. وكان الإخوان المسلمون من بين القوى السياسية التي أدانت الحادثة ولم تنفضح صلتهم به إلا في منتصف الثمانينيات بمذكرات الشيخ أحمد حسين الباقوري الذي كان عضواً في مكتب الإرشاد أثناء اغتيال أحمد ماهر، وبتأكيد الشيخ سيد سابق الذي عينته الجماعة مفتياً للقتل. وكان هذا التعيين قد جاء في اعقاب اغتيال المستشار الخازندار رئيس محكمة الاستئناف في الاسكندرية الذي كان يحاكم عناصر من الإخوان ارتكبت أعمال عنف مما دفع حسن البنا إلى السؤال عمن يخلصهم منه أمام عبدالرحمن السندي رئيس الجهاز الخاص، واعتبر السندي هذا أمراً بقتل الخازندار فكلف اثنين من أعضاء الجهاز باغتياله، ثم بعد القبض عليهما اختلف البنا والسندي، إذ أنكر الأول ما ادعى الثاني أنه أمر به، وعندئذ أقر مكتب الإرشاد أن لا يجري اغتيال أي شخص إلا بفتوى شرعية كلف بها سيد سابق. وكذلك أفتى سابق المكلفين بقتل النقراشي باشا في ديسمبر 1948 مستشهداً بالآية«يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا فاثبتوا» وعند التحقيق أنكر القتلة علاقتهم بالإخوان حتى ووجهوا ببيان البنا «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين» فأقروا ودلوا على فتوى سيد سابق. وفي التحقيق أنكر سابق فتواه واستشهد بالآية الكريمة «ومن قتل نفساً متعمداً فجزاؤه جهنم خالدين فيها».
وإذن فقد نشأ الإرهاب مع حسن البنا ومعه أيضاً نشأ الإنكار والإدانة، واستمر هذا في مسيرة الإخوان حتى محاولة اغتيال جمال عبدالناصر في ميدان المنشية 1954 ثم محاولة سيد قطب في 1965 إلى «حنحرق مصر» بعد عزل مرسي. وقبل ذلك صناعة جماعات القتل في أفغانستان التي تفرعت منها جميع التنظيمات الارهابية المتصلة بالجماعة الأم على نحو أو آخر.
ويوم قامت القاعدة قومتها الأخيرة سبقها مؤتمر لمن يطلقون على أنفسهم «علماء اليمن» شنوا فيه حملة شعواء على الدستور الذي سيأتي. ويوم أمس ركب أحد الصحافيين تاكسي كان صاحبه الشاب يسمع أغاني دينية فراح معه في الكلام حتى كشف هويته السياسية وحين أبدى الراكب اعتراضه على جرائم حضرموت قال السائق: «استقضينا».
لهذا لا يبدو السبيل ممهداً للخلاص من العنف باستئصال «القاعدة» وحده، فهنا في قلب الجماعة مزرعة التكفير ومصنعه والمشتل الذي تنبت منه السكاكين والسيوف والألغام والبنادق. ومع ذلك فالمعركة لن تحسم بالحرب وحدها وإنما بالفكر وبالثقافة والعلم وهي معركة طويلة ومعقدة.
لكن من يقدر عليها..
k.aboahmed@gmail.com
في الثلاثاء 12 أغسطس-آب 2014 01:02:23 ص