ردم الهوّة بين الشارع والفن
كاتب/فتحي أبو النصر
كاتب/فتحي أبو النصر

بدأ الفنان المبادر مراد سبيع حملة فنية جديدة “كاريكاتير الشارع” من المقرّر أن تستمر أسابيع، وتتناول عدة قضايا متنوعة، فيما أوضح «أنها تهدف إلى مخاطبة الناس عن طريق اللوحات الجدارية» في شوارع العاصمة، وهي تجربة مفارقة للجرافيتي الشاب من خلال اعتمادها المفارقة الساخرة في التناول، مع أنها كحملاته السابقة التي اتخذت الجدران مرسماً لها كتعبير عن الاحتجاج وتجسيد لعديد هموم وقضايا مجتمعية وجمالية. 
سبيع وهو تشكيلي شاب ـ27 عاماً ـ له تجربة بارعة ومحترفة وذات مزاج خصوصي في الرسم الحديث على اللوحات، لكنه عُرف أكثر بتدشين فن الرسم على الجدران “الجرافيتي والجداريات” ومع أنه الفن الحديث في اليمن مقارنة بالدول الأخرى، إلا أنه لاقى تفاعلاً شعبياً واسعاً. 
والحاصل أن بلادنا تعاني أكثر من غيرها شحّة الاهتمام الثقافي الرسمي بفن الرسم، إضافة إلى خصومة الأصوليين لأي توجُّه فني متطلّع، مابالكم وأن المسعى الذي يعمل عليه هذا التوجه الحر هو أن يصبح الفن في متناول الشارع. 
 غير أن سبيع اتجه ناحية التأسيس لجاذبية الفن على المستوى الشعبي مستغلّاً فراغات الجدران ومحمّلاً إيّاها مضامين أعماله الجمالية والإنسانية والوطنية الرفيعة في مغامرة راهن عليها ونجحت، كما يمكن القول إن سعيه الفني الجديد انطلق للفضاء العام بتأثير الثورة الشبابية 2011م، حيث كان من أهم المؤسسين الميدانيين الأوائل لمسيرات ومظاهرات فعل الثورة والاعتصامات في ساحة التغيير. 
والثابت هو أن لحملات سبيع تأثيراً لافتاً على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، في حين تأتي مبادراته الذاتية كجزء من ثورة المفاهيم الجديدة التي تتخلّل الوعي الشبابي في اليمن، حتى إن هذه الحملات الفنية صارت صوت الناس بالفعل. 
في البدء؛ لاقى تجاوباً من فنانين شباب هواة شكّلوا فريق حملاته لاحقاً فخاضوا على مدى العامين الأخيرين عدّة حملات التف حولها إعلاميون ونشطاء وحقوقيون، حملت أسماء «لون جدار شارعك، والجدران تتذكّر وجوههم، و12 ساعة» غايتها الاحتفاء بالألوان ونبذ العنف وانتقاد الطائفية والانحياز لقضايا السلام والمواطنة والمدنية وحقوق الإنسان. 
قبل أشهر أعلنت مؤسسة “فيرونيزي” الإيطالية عن منح الفنان مراد سبيع جائزة “الفن من أجل السلام” للعام 2014م، حيث من المقرّر أن يستلمها في احتفالية خاصة على هامش المؤتمر العالمي السادس للسلام الذي سيُقام في مدينة ميلان الإيطالية منتصف نوفمبر القادم. 
ولقد أهدى سبيع الجائزة لكل من تفاعلوا مع حملاته الجدارية وعلى رأسهم أولئك الذين أسهموا معه في إنجازها من الفنانين المتفاعلين شباباً وشابات. 
كانت الحملة الأولى «لوّن جدار شارعك» قد انطلقت بنداء منه عبر "الفيس بوك" كما هو معروف ثم بأشياء بسيطة كما بتصميم كبير لتمثل صرخة ضد الخراب الذي أنتجته الحرب التي دارت في صنعاء بين فصيلين «الفرقة الأولى مدرّع والحرس الجمهوري سابقاً» العام 2011م، وإذ كان المرء يتأمّل في شوارع صنعاء المحيطة بساحة التغيير حينها فلا يجد إلا الأبنية التي نزح عنها سكانها والمنخورة بالرصاص والقذائف، فضلاً عن تلك الجدران المشوّهة بعبارات العنف والكراهية والمديح للرئيس السابق أو الذم له، نجحت الحملة التي استمرت أسابيع في تحويل الأمكنة التي كانت شوارع العاصمة اليمنية عموماً باعتبارها تفتقر لمسحة الفن إلى أمكنة معبّأة بالرسومات الحرّة والنصوص البصرية الواعية والبديعة في دلالاتها الفنية والجمالية المبتكرة. 
يقول سبيع: «الفكرة كانت جديدة كليّاً على الشارع اليمني، وقد أسهمت في رفع مستوى الوعي الفني لدى الناس» أما حملة «الجدران تتذكّر وجوههم» فكانت حملة إنسانوية عميقة أيقظت في المجتمع والنُخبة معاً أخلاقيات كانت مطمورة، حملة شجاعة وشاقة وبدلالات حقوقية كبرى، مقترنة بالتضامن في مجتمع لا تحترم نُخبته العدالة الانتقالية ولا تأبه بها على ما يبدو، وبالتالي علمتنا تلك الحملة كما يقول أحد المواطنين ـ “أهمية الانحياز إلى المسكوت عنه، كما مثّلت مؤشر سلامة لما تبقّى من احترام ضئيل للعدالة لدينا”. 
 قُوبلت الحملة إيّاها بتقدير شعبي لافت نظراً لجهودها في رسم صور المخفيين قسرياً، وهم ضحايا الصراع السياسي في الشمال والجنوب قبل الوحدة ولايزال مصيرهم مجهولاً إثر اعتقالهم وإخفائهم بدعوى انتماءاتهم السياسية أو الفكرية التي كانت تتصادم مع تلك الأنظمة حينها. 
على أن الحملة المحكومة بقيمة الضمير أساساً؛ لم تستطع أن تخلّد وجوه العشرات من ضحايا الإخفاء القسري فقط، بقدر ما صعّدت القضية إلى المتن الحقوقي والإعلامي وتداولات الرأي العام أيضاً، وهي القضية التي يُراد لها أن تعود إلى الهامش بحسب الوقائع، مع أن تفعيل حق الأهالي سيظل أصيلاً من أجل معرفة الحقيقة ووضع حد لمعاناتهم الفادحة، ما يعني ضرورة وضع حد لإجحافات التسويف عن تبنّي هذه القضية بشكل واضح وفق المبادئ الدولية لمقتضيات العدالة الانتقالية كما ينبغي. 
وأما حملة «12 ساعة» فقد ناقشت في كل ساعة مشكلة أو قضية من قضايا المجتمع، وكانت تتم كل خميس ككل الحملات السابقة التي تعمل في أهم شوارع العاصمة وتصنّف كأهم التغييرات في التوجُّه الثقافي لدى الموجة الشبابية الجديدة.  
 الشاهد أن سبيع ورفاقه الذين يمثّلون جذوة الشباب اليمني الحديث؛ انتصروا لعديد قضايا حقوقية واجتماعية وفكرية عبر الفن ومن خلال احتجاجهم ورفضهم كفنانين عملوا على ردم الهوّة الكبيرة بين الشارع والفن، محاولين بدأب إيقاظ التاريخ والضمير والإبداع، كذلك ظهروا كأصحاب هموم وطنية جامعة، بارعين في تجسيد جوهرها، بدايةً من خلال احتفائهم الإبداعي بالألوان ودلالاتها المبهجة في وجدان متلقّيها وما تصنعه الرسومات من تفاعل مع الحياة والحلم والإرادة المنافية للعنف، وصولاً إلى رفضهم الخصوصي المائز لجملة ظواهر سلبية تثخن الواقع اليمني كحمل السلاح والاختطاف والإرهاب والطائفية والعمالة والحروب الأهلية وتجنيد الأطفال.... إلخ، مروراً بتماهيهم المشهود القدير مع مشاعر أسر ضحايا جرائم الإخفاء القسري، وذلك في محاولة دؤوبة للفت أنظار المجتمع إلى هذا الملف المنسي والشائك، كما من أجل الحث على أهمية جبر ضرر تلك الأسر وإعادة الاعتبار لحقها المهدور بإبراز معاناتها في عدم معرفة مصير أحبائها المفقودين كمأساة مفتوحة الأثر تتفاقم كل يوم منذ عقود. 
وإذ ليس من انتماء لحملات سبيع ورفاقه سوى الانتماء الأجمل إلى الأمل الصعب، نشير إلى أنها لطالما قاومت حملات القبح والتحريض الاستعدائي ضد رسالتها. 
والمؤكد أن هذه الحملات ستظل منجزاً شبابياً فارقاً وملهماً لصحوة الذاكرة الراقية وبالضد من دناءة النسيان وقسوته، منجزاً قيمياً يحث على انبثاق روح اليمن الحضارية التي تفضي إلى الاعتزاز، وليست اليمن التي يجري إفراغها وضربها حضارياً، اليمن التي لا تمنح أنبل عشّاقها إلا مزيداً من الخيبات والخذلانات..!!. 
 تحيّة كبرى لهذا الإبداع الحقوقي والجمالي الضليع. 

fathi_nasr@hotmail.com 


في الخميس 14 أغسطس-آب 2014 06:17:13 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=1648