|
ستظل مشكلة اليمن الأساسية والأكثر تعقيداً هي التعصُّب بكل أنواعه، سواء كان تعصّباً قبليّاً.. أو تعصّباً حزبيّاً.. أو تعصّباً دينيّاً؛ لأن التعصّب يولّد التطرُّف والغلو والانغلاق وعدم القبول بالآخر مهما كان، ولا تسفر عنه سوى الكوارث، واليمن في أوضاعها الراهنة لم تعد قادرة على تحمّل المزيد من التعصّبات، خاصة وأنها عانت كثيراً من التعصّب القبلي الأعمى المنغلق على نفسه والمتمرد في علاقاته مع الدولة والمجتمع منذ سنوات طويلة، وهو التعصّب الذي بسببه اندلعت كثير من الحروب والصراعات، سواء بين القبائل نفسها أو بينها وبين الدولة، وتفشي ظاهرة العنف وأعمال التخريب والتقطعات، ونشوء بؤر التطرُّف والإرهاب، وبسببه أيضاً حُرمت كثير من المناطق مما حظيت به غيرها من المناطق والمدن التي شهدت نهضة تنموية كبيرة، وخاصة في جانب التعليم والصحة، والطرق، والكهرباء، والاتصالات، والمياه، وغيرها من مشاريع الخدمات، الأمر الذي جعل السواد الأعظم من أبناء تلك المناطق المحرومة من خيرات الدولة والوطن يعيشون حياة بدائية موغلة في التخلّف، يتسلّط فيها النافذون الذين لا همّ لهم سوى مصالحهم، وضمان بقاء أبناء القبيلة تابعين لهم ومسخّرين لخدمة مصالحهم وتسلّطهم، وذلك على حساب مصالح المواطنين المكفول لهم شرعاً وقانوناً وعرفاً، أن يعيشوا بكرامة وحرية وبرفاهية ورخاء، وأن تتوفر لأبنائهم فرص الالتحاق بالتعليم ليسهموا بدورهم في مسيرة النهوض بمناطقهم أولاً ثم بالوطن، والتحرر من نعرات التعصّب، والاندماج في المجتمع والانفتاح على غيرهم من أبناء الشعب الذين حصلوا على فرص التعليم وتمكّنوا بعد ذلك من خدمة مناطقهم، سواء في الأرياف أو المدن، وخاصة تلك التي حافظت على الأمن والاستقرار فيها وفي الوطن بشكل عام، ونتيجة لذلك شهدت نهضة تنموية كبيرة - وإن كانت محدودة بالنظر إلى الطموحات والآمال - وذلك لكون تلك المناطق كانت ولا زالت متحرّرة من التعصّبات القبلية والنعرات الممقوتة، واندمجت ضمن عملية التطوّر والتحديث التي شهدتها اليمن خلال الخمسين سنة الماضية.
لا يمكن الإنكار أن للقبيلة بعض الجوانب الإيجابية والعادات والتقاليد والأعراف والقيم النبيلة، لكن لا يعني ذلك أن يظل أبناء تلك القبائل مكبّلين بنعرات التعصّب الأعمى ومحرومين من حقهم في التعليم وفي التطور وانتشال مناطقهم من واقعها البائس المتخلّف وبالتالي حق المشاركة والإسهام في مسيرة العمل الوطني، وقبل ذلك حقهم في العيش الكريم، وعدم بقاء مناطقهم خارج سياق التطوّر والنهوض.
صحيح إن إمكانيات وموارد الدولة محدودة وشحيحة، وأن هناك من يبرّر بقاء تلك المناطق محرومة لذلك السبب، لكن حينما يسود الأمن والاستقرار في تلك المناطق وتتلاشى سطوة النافذين والمتحكمين في مصير تلك المناطق وأبنائها والذين جعلوا من أنفسهم عائقاً أمام محاولات الدولة بسط سلطاتها وفرض هيبتها واحترامها، وإقامة المشاريع في تلك المناطق، وأصرّوا على تجهيل أبنائها، وحينما يُظهر أبناء تلك القبائل حماسهم في التعاون مع الدولة ويخضعون لسلطاتها، ويتخلّون عن حمل السلاح، ويتجهون نحو التعليم، ويلتزمون بالأنظمة والقوانين، ويتحولون إلى الحياة المدنية - ولو بالتدريج - حينها ستتمكن الدولة بتعاون الجميع من تنمية مواردها وتعويض كل المناطق المحرومة، وتهيئة المناخات الكفيلة بجذب رؤوس الأموال الوطنية والعربية والدولية للاستثمار في اليمن في مشاريع استراتيجية تسهم في التخفيف من البطالة التي تشكّل سبباً رئيساً لحدة الفقر الذي يعاني منه اليمنيون, بالإضافة إلى البحث والتنقيب عن الثروات الكامنة في باطن الأرض وفي المياه الإقليمية وغيرها من الثروات المتعدّدة والمتنوعة والتي ستكون كفيلة بتأمين حاجة اليمنيين، إذا استغلت الاستغلال الأمثل، وتم توجيهها نحو تنمية الوطن والارتقاء بمستوى حياة المواطنين، ومنع قوى النفوذ والتسلّط من تخويف شركات الاستثمار وابتزازها وعرقلة جهودها في البحث والتنقيب عن الثروات التي لاشك أنها ستجنّب اليمنيين مذلة السؤال.
نعود ونقول إن التعصّب الأعمى لا ينتج عنه سوى المزيد من التخلّف والانغلاق والكوارث، خاصة إذا أُضيف إلى التعصّب القبلي التعصّب الحزبي الذي أصبح في المرحلة الراهنة يشكّل مشكلة كبيرة لليمن ولليمنيين وظاهرة خطيرة تنذر بكوارث محققة ستقضي على روح التسامح والتعاون والتكافل والوئام بين أبناء الوطن الواحد، بالإضافة إلى تعصّب أخطر وأسوأ وهو التعصّب المذهبي والطائفي الذي برزت مؤشراته الخطيرة أخيراً في قيام بعض الأحزاب والقوى النافذة بتغذية الصراعات والحروب التي تدور في ظل هذا التصنيف والتي كان اليمنيون في غنى عنها؛ كونهم ظلوا مئات السنين متعايشين، متآخين، متسامحين، ينبذون كل أنواع التعصّب، بما فيه التعصّب المذهبي والطائفي، الذي لم يكن له وجود أصلاً في تفكير وواقع حياة اليمنيين، إلى أن عملت تلك الأحزاب وبانتهازية مستغلة مناخات الحرية والديمقراطية على توظيف السياسة لإذكاء النعرات العصبوية بكل سلبياتها، وعمدت إلى القيام بعملية فرز اليمنيين وتصنيفهم بين سنّة وشيعة، وبين عدنانيين وقحطانيين، وزيود وشوافع، وإثارة النعرات والنزعات المقيتة التي ستدمّر البلاد وستشعل الحروب الأهلية بين اليمنيين، التي بدأت مؤشراتها الخطيرة والمخيفة باندلاع المواجهات المسلّحة والاقتتال على أبواب العاصمة صنعاء، والتي تهدّد بتقويض التسوية السياسية الجارية في اليمن وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمَّنَة التي تمت بموجبها عملية الانتقال السلمي للسلطة، وانعقاد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، الذي شاركت فيه كافة أطراف العمل السياسي في اليمن، وما أسفر عنه من مخرجات لا شك أنها شخّصت العلل التي يعاني منها الوطن، ووصفت لها العلاج الشافي، وأنها هي التي ستطفئ نار الفتن والاقتتال بين أبناء الوطن الواحد.
إن الواجب الوطني يفرض على اليمنيين أن يدركوا خطورة ما آلت إليه أوضاعهم اليوم، ويقتنعوا أن التغيير الذي كانوا ينشدونه في إطار ما سُمّي بـ(الربيع العربي) لم ينتج عنه سوى وضع بلادهم تحت الوصاية، وتعريض الوحدة اليمنية للخطر، والتهديد بتحوّل اليمن إلى كنتونات ومشيخات وسلطنات، وزيادة متاعب الناس ومعاناتهم, وتردّي الأوضاع الأمنية, وانتشار ظاهرة الاغتيالات وأعمال القتل, والتخريب وقطع الطرقات والاعتداءات المستمرة على أنابيب النفط والغاز وأبراج وخطوط نقل الكهرباء وإشاعة الخوف والرعب في أوساط المجتمع, وخوف الجميع من القادم المجهول, بالإضافة إلى أن عاصمة اليمن أصبحت مهدّدة بالاقتحام والاستيلاء عليها من قِبل مليشيات مسلّحة ما كان لها أن تكون وأن تتحدى الدولة وتستفز مشاعر الناس، لولا التعصّب الحزبي الأعمى, وعدم القبول بالآخر والإصرار على القضاء عليه, وهذه هي ثمار ما سُمّي بثورات (الربيع العربي)..!!
في الثلاثاء 26 أغسطس-آب 2014 02:12:06 م