|
لا يوجد شعب مولع بالسلاح في العالم العربي مثل اليمنيين، بل إن عدد قطع السلاح يفوق عدد السكان، فمن المنظور الثقافي يُعد السلاح مصدر فخر في المناطق القبلية، كما يحدّد المكانة الاجتماعية لحامله؛ غير أن الظاهرة انتشرت خارج الحدود القبلية منذ فترة التسعينيات من القرن الماضي، وصارت المدن الرئيسة بؤرة أفعال المسلّحين وانزياحاتهم الخاصة.
لذلك تصعب محاربة الإرهاب سلوكاً وثقافة في اليمن، ففي بلد متخلّف شديد الأمّية انحسر فيه الفن المسرحي وتلاشت دور السينما وألغيت حصص الرسم والموسيقى من المدارس، على عكس ما كانت عليه في السبعينيات والثمانينيات؛ صار السلاح هو المظهر الأساسي والبارز في الحياة اليومية لليمنيين.
ولعل أبرز مشكلات هذا الحس الثقافي الطاغي إقصاء المدنيين والنظر إليهم بازدراء كونهم ليسوا مع الثقافة النافذة؛ كل ذلك جعل السلاح هو النص المفتوح في المجتمع، والشاهد هو أن السلاح يغتال ما تبقّى من أحلام اليمنيين بالتعايش والازدهار والسلام.
فاليمن هي البلد الثاني على مستوى العالم في انتشار السلاح بعد أمريكا؛ إلا أن الفارق الجوهري بين الدولتين يكمن في عدم امتثال العقل اليمني المسلّح للقانون المنظّم، ففي اليمن أسواق خاصة لبيع السلاح، كما تخلّت الحكومة عن دورها في الحد منه بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في إيجاد آلية توعية مطلوبة تسهم في خلق وعي شامل لدى كافة الشرائح ضد حيازته ومخاطره.
على أننا بقراءة المعنى ودلالاته في تمثّلات اليمنيين لثقافة التسلّح، نكتشف أن القيمة العرفية في القبيلة هي المحدّدة للأخلاق، فالسلاح ظاهرة قبلية لها صلة بالاستقواء والسيطرة، فضلاً عن أن التفكير المسلّح هو تفكير أصولي بالأساس، ولذلك نفسّر دفع الحركات الدينية أفرادها للتسلُّح بغاية التمكين.
بالمقابل ثمة إجماع بين النُخبة على أن توطيد مظاهر توريث مهيمنات التعسف والقدامة هي لإقصاء كتل الحداثة والتنوير، وكان وحده الحزب الاشتراكي ـ قبل الوحدة ـ استطاع أن يحدّ من السلاح لدى قبائل الجنوب سابقاً لاسيما أن ذلك جاء مع توجُّهه الجاد لتعزيز ثقافة المدنية والقانون والتقدّم واحترام الدولة.
أما اليوم فإن تمجيد ثقافة التسلُّح هي الغيبوبة الجماعية لليمنيين، إنها متلازمة الغلبة وتأكيد البُعد العنفي لطابع القطعان الذين ينقادون وراء عملية إجبار المختلّف، لكنها المتلازمة التي تضفي طابع التراجيديا على فقراء يتم استلابهم وحصرهم في كوميديا أوهام امتيازات التخلّف بالمحصلة.
هذا يعني أن تدهور الذوق الجمالي العام، واتساع الفجوة الفنية والذوقية بين الإنسان اليمني المعاصر وتراثه الجمالي والفني المتعدّد والأصيل هو ما يؤدّي إلى فقدان الهوية الفنية والحضارية للشخصية اليمنية كما يرى الدكتور شوقي الحكيمي، وبرأيه فإن الإصلاح الثقافي والفكري يجب أن يجري في عمق منظومة القيم الحاكمة بوعي التذوق الفني والجمالي لإصلاح الأفراد والجماعات.
وتتجلى تمظهرات السلاح أكثر من غيرها في قبائل الشمال على وجه التحديد، كما تترسّخ الصورة الذهنية لليمني بأنه كائن يتمنطق بندقية أو على الأقل خنجر على خصره «الجمبية كما تسمّى شعبيا» ومن الناحية الابستمولوجية يدأب اليمني على تذكُّر أنه كائن محارب منذ فجر التاريخ.
ولئن كانت كل قبيلة تحتمي من الأخرى بتسلُّح أفرادها ما يحدث توازناً في البنى الاجتماعية؛ كانت المدن حاضنة الجميع بحيث لا يجب وفق الثقافة القبلية دخولها بالسلاح؛ إلا أن هذه القيمة تلاشت خلال العقود الأخيرة، ووصلت ذروتها حالياً، فترى السلاح في قلب العاصمة اليمنية يزهو به حامله ويسبّب إرباكاً لمخالفيه وعنفاً متسع النطاق كل يوم.
وإذ ترتفع الأصوات المطالبة بضبط انفلات السلاح بين حين وآخر، إلا أنها بلا ثقل يكفي لإحداث تغييرات منشودة في الثقافة المتوطدة، فعلى الرغم مما يخلّفه السلاح من تهديد للأمن الإنساني في المجتمع، إلا أن هناك تجانساً مع هذه الثقافة السلبية ينبع من اللا وعي إذا جاز التعبير.
والشاهد هو أن حوار الذات المسلّحة مع الآخر، لا يمكن أن يكون طافحاً بقبولها بالآخر كما ينبغي؛ على أن اليمنيين لن يستطيعوا تجاوز أزماتهم التاريخية راضخين إلى أفكار ما قبل الدولة، مالم يحدّدوا موقفاً جذرياً من استلاب السلاح لأمنيات التطوّر التي تتغلغل في المجتمع على استحياء وقهر.
ويقول المفكّر الراحل محمد أنعم غالب في كتابه «اليمن الأرض والشعب» إن القبائل اليمنية تنظر إلى الحرب باعتبارها وسيلة إنتاج، والحاصل هو أن القبائل المنتشرة في مناطق الوسط والجنوب تحوّلت في مرحلة تاريخية إلى قبائل زراعية، كما تخفّفت من نزعة القتال وتركت السلاح ومارست التجارة ومختلف المهن بعد خضوعها لسلطة الدولة المركزية؛ وبذلك أخذت تمظهرات القبيلة فيها بالتراجع؛ على عكس قبائل الشمال الغربي والشرقي التي بتماسك عصبوي أقوى لكنها بلا إمكانات مادية، ولذا اتخذت القتال حرفة متأثرة بنمطها البيئي العسر.
كذلك بفعل الطابع الحربي للقبيلة لم تستطع الدولة احتكار الاستخدام الشرعي للقوة «وتسود المجتمع الديمقراطي ثقافة الثقة أو علاقات التعايش التكافلي، أما المجتمع العصبوي فيسوده الشقاق وعدم الثقة وتربُّص كل جماعة بالجماعات الأخرى» .
هكذا تدأب ثقافة التسلُّح على نشر الخراب والدمار، ويتصدّر السلاح باعتباره صانع أفكار اليمنيين حالياً وصائغ وجدانهم.
fathi_nasr@hotmail.com
في الجمعة 24 أكتوبر-تشرين الأول 2014 06:19:25 ص