|
أين تقع اليمن؟ يمكن الإجابة بسهولة إن كان سؤالاً يتعلّق بالجغرافيا، لكن يصعب تحديده بالمعنى الثقافي والإجتماعي، أو بصورة أكثر مقاربة بالمعنى الحسي. عن أي يمن نتحدث؟ فهناك يمن مُتخيّل وآخر واقعي. يمن نؤمن به وآخر يغدو جاثماً أمامنا بالفجائع كما لو أنه دزينة من التوقعات المثخنة بالجروح. هل نتحدث عن بلد ينزف أو آخر يغدو سميناً بالأوهام؟ ذات يوم تحدثت عن “ضريح الدولة” كعنوان رئيس لهذا البلد، وهو عنوان اقتبسته من الكاتب اللبناني “أمين الريحاني” الذي زار صنعاء بداية العقد الثاني من القرن العشرين. لم أجد ما هو أفضل من ذلك الوصف للتعبير عن حقيقة هذا البلد، ومع ذلك لا نستطيع إلا أن نعشق هذا البلد ونعيد طريقتنا في شكل الإيمان به، حتى حين يبلغ منا اليأس حداً لا متناهياً، فإننا نستعيد تصوّره في جسد مُتخيل، قد نعرف إننا لن نبلغه أو نراه، لكن لا نكل عن إدمان تخيّله. حتى حين نتحدث جازمين بأننا بلغنا اليأس منه، يكون بمثابة مهادنة نستعيد معها تصورات أخرى عن خيباتنا الأولى.
إن مثل هذا الإصرار على الامتثال لتكهنات غير قابلة للحدوث، هو نوع من التعايش مع الواقع الحقيقي. الوهم أيضاً طريقة لتقبل الحقائق بطرق ملتفة. لكن عندما يكون الوهم إرادة للفعل، يمكن تحققه. لنرى كيف تبدو اليمن متعايشة وسهلة مع أكثر الاشكال دمامة ووضاعة. وكنت سأقول ما اعتقدته دوماً، إن الجمال والعقل هما أكثر شيئين غير مقبولين هنا. إنه ببساطة حصيلة فترة طويلة من العقم سواء في الانتاج الابداعي أو الابتكار الانساني. واليمن كمركب هي نوع من اختبار مستمر لحقائق كانت صالحة في القرون الوسطى.
وعلى سبيل المثل فإن قراءة ابن خلدون السيوتاريخية لتطور علاقة البدو والحضر، ليست وافية اليوم مع تعقيدات الواقع، وتطوّر علاقاته الانتاجية والاجتماعية، إلا أنها كنظرية ظهرت في القرن الرابع عشر مازالت صالحة تماماً على اليمن. أي إننا كبلد مازلنا نسير في مركبة القرون الوسطى، مع أننا في القرن الواحد والعشرين.
وما حدث ويحدث هو دلالة فانتازية على ذلك. أي إن اليمن بلد مندمج الأزمنة، لا نعرف متى يكون الحاضر والماضي منفصلين، ومتى يكون هناك مستقبل وكيف سيأتي. ليس لأن البلد هذا غير قابل للتوقع، إنه أيضاً وهم نعتقده، يتعلق الأمر بإصرارنا على تصور العصر التكنولوجي الذي نعيشه، بينما نفتقد أثر السفينة الشراعية التي تعب بمظهرها المتجهم والبالي. مع ذلك هل نكف عن الايمان به؟. هناك يمن مُتخيل، كلما اقترب لأن يكون واقعاً، كلما غرق في أغوار أعمق. إلا أن رغم ذلك التداخل الزمني، ليست بالضرورة شبيهة بواحدة من قصص الواقعية السحرية التي أنتجها أدب أمريكا اللاتينية. بل هي واقع معجون بالدم.
وكما تمتثل لنا الصورة حمراء يُغدق عليها معجون الدم القرمزي، فهل سنرى خريطة جديدة لليمن؟، ليست تلك التي عشناها أو افتقدناها. عندما بدأت اضطرابات البلقان قال رجل عاش في البوسنة: إنه دون أن يغير منزله، تغيرت جنسيته 7 مرات. أي إنه عاش في 7 دول مختلفة دون أن يغير منزله. وما نعيشه في اليمن، ليس انتصاراً لأحد، في الحقيقة، كما قال صديق: ما نعيشه هو هزيمة للوطنية اليمنية.
g-odaini@hotmail.com
في الإثنين 03 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:25:04 ص