|
الدكتور المفكّر مصطفى محمود لم يكن «مارقاً» بالمعنى الذي ذهب إليه البعض، بل كان من المُباشرين للمنطق المادي البرهاني بكامل أدواته الابستمولوجية التي تستبعد الماوراء استبعاداً إجرائياً وليس إنكارياً، كما أن تجربته الطويلة في عوالم الحيرة والتساؤلات الفلسفية والشك، والتي استمرت ثلاثين عاماً، كما قال هو بذاته.
تلك التجربة اقترنت بالوصول إلى اليقين الإيماني التام، وهو بهذا المعنى لم يكن وحيد ذاته في تاريخنا المعروف والمكتوب، فقد كان الإمام العلّامة محمد بن حامد الغزالي، وعلى سبيل المثال لا الحصر مشغولاً بالعلوم الأرسطية العقلية، ثم بالكلام التأويلي عند المسلمين، وحتى التصوّف، وفي كل تلك المراحل من تاريخه الفكري العام.
قارع الفلسفة بلغة الفلسفة وأدواتها، وتأوَّل الكلام بوصفه من علماء الكلام الكبار، وجاور التصوّف، مستعيناً بقوة الخيال والعرفان، مُترنحاً بين ضفتي الشريعة والحقيقة، لكن أحداً لم يتّهمه في يقينه الإيماني المطلق، ولم يتأوَّل مساراته المُركَّبة في دروب الفكر والتأمل والنظر.
سيرة الدكتور مصطفى محمود لا تختلف من حيث الجوهر عن سيرة العارفين الذين صافاهم الله بإشراقات نورانية عابرة للمكان والزمان، وقد كانت تلك الموهبة الممنوحة سبباً من أسباب حضوره الكبير في سؤال المعرفة والمعاني، وقد عكست مؤلّفاته الكثيرة التي تزيد عن 80 مؤلفاً رؤيته الشاملة لقوانين الطبيعة والكون والمجتمع، كما تجلَّت في أحاديثه المتعدّدة معنى الإقامة المطمئنة في حالة الاسترخاء المقرون باليقين.
فلم يكن مصطفى من النوع الذي يغرق في تفاصيل الخلافات الصغيرة، ولا كان من المُتمسكين بالتعصُّب لفكرة محدّدة، بل كان على العكس من ذلك ميالاً للاستطرادات والتحوّلات، وصولاً إلى الانتماء العضوي لعامة الناس وخدمتهم فيما ينفعهم، وتكريس ما يملك من حطام الدنيا لأهداف سامية تمثَّلت في مشاريعه الخيرية المشهودة.
علاقته الخاصة بالموسيقى عزفاً وأداء كانت بمثابة الترجمان لميزان التصالح مع التنوّع، والتناغم مع التعدّد، فقد كانت الموسيقى بالنسبة له المعادل السحري الذي يجمع الأشتات، ويؤكد التداعي الحُر مع التجريدات اللامتناهية، ويعكس ذلك الجانب الخفَّاق في وجدان المفكر.
لقد انعكست ثقافته الموسيقية الشرقية الأصيلة في مصفوفة كتاباته الناعمة الواضحة، كما في معالجاته البصرية لبرنامجه التلفزيوني الشهير «العلم والإيمان» التي بدت حلقاته مُموْسقة ومُدوْزنة بإيقاع تراتبي ناعم ولغة شفيفة واضحة ومدخلات بصرية مختارة بعناية العازف على مفتاح «صول» الموسيقي الكبير.
Omaraziz105@gmail.com
في الخميس 06 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:14:57 ص