الشياطين وراء الراديكالي
كاتب/جمال حسن
كاتب/جمال حسن

 يثير لنا الروائي الروسي فيدور ديستوفيسكي عمى الراديكالي في روايته الشياطين، وهي تعتبر واحدة من أهم أعماله وأكبرها حجماً، يستخدم فيها جزءاً من رؤيا يوحنا في الإنجيل، عندما يطلب الشياطين من المسيح أن يسمح لها بدخول الخنازير والتي ما إن يدخلها الشياطين حتى تجن وتقذف بنفسها إلى البحر. 
والرواية لا تمثّل أي مدلول رمزي، بل تصوّر المجتمع الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولا يمكن القول إن العمل تنبؤي يستبق القرن العشرين بما سيحمله من صعود التطرفات وتصادم الراديكاليات السياسية، إنما يصف تعاطي المجتمع مع ظهور الاشتراكية، لكنه يغوص كعادته في الجانب السيكولوجي في شخصياته، وكما يتحدث هو عن شخصياته، هناك تضخيم يختلقه لشخصيات موجودة بيننا في المجتمع يمتاز العمل إلى جانب مجهره السيكولوجي العميق الذي عودنا عليه ديستوفيسكي، إنه يستخدم بنية سردية مختلفة نوعاً ما عن بعض أعماله، بل تبرز جوانب حداثية ستؤثر في الأدب الروائي على وجه الخصوص. 
والأهم هو وصفه واستحضاره شخصية الراديكالي، أي المؤمن الأعمى، فهناك أركل، وهو شاب يمتاز بطاعته لأمه، حيث يرسل لها نصف راتبه الهزيل، لكنه يتحول إلى قاتل بدم بارد، لأن إيمانه يوجهه. أي إنه الشخص المغرر به، الذي لا يمكنه العيش تحت ظل شخص يوجهه. 
مثل هؤلاء الأشخاص نجدهم في الواقع، ومع صعود الراديكاليات ذات البعد الديني، يتكدس أمامنا آلاف الشباب المؤمنين المستعدين لفعل ما يملي عليهم قادتهم، إنهم أشخاص مغرّر بهم، لكنهم مع ذلك لديهم كثير من الصفات الطيبة، يبرّون آباءهم وخارج تلك الإملاءات يمكن أن يكونوا أشخاصاً إيجابيين، فشخصية ديستوفيسكي الثانوية في الرواية، أي أركل، لا يدفعه أي عداء نحو أولئك الأشخاص المستعد لقتلهم، بل لأنهم يشكلون تهديداً للقضية التي وهب حياته لها. لكنه أيضاً لا يقرر أن ذلك الشخص يهدد قضيته، بل هو يتلقى أوامر، إنه كيان يتم تحريكه لا يتحرك من تلقاء نفسه، يرتهن إلى قائد، إلى قدوة زعامة. 
ما يميز ديستوفيسكي ككاتب، إنه استثنائي في عصره، كما هو استثنائي الآن، لا تقدم الرواية رؤية فكرية وإن حضرت نقاشات فكرية، ذات عمق متقدم، فمثلاً يتحدث أحد شخوصه عن عدم وجود البروليتاريا في المجتمع الروسي، وأنه مازال مجتمعاً إقطاعياً، الأمر الذي يجعل الاشتراكية صعبة التطبيق، وهي مسألة تحدث عنها بليخانوف الزعيم المنشفي الشهير، الذي انشق عنه لينين والبلاشفة، إبان الثورة الشيوعية مازالت سابقة لأوانها بانتظار التحوّل إلى مجتمع رأسمالي. وهي مسألة لم يبتكرها ديستوفيسكي نفسه، أي إنها ليست بالضرورة أن يكون الوحيد في حينه الذي تحدث عنها، لكنها تحمل أيضاً نضجاً ذهنياً في تصويره الواقع، كما أن تلك الأفكار ليست محشورة تقيد حركة الرواية وفنها. 
رواية الشياطين عمل رائع بكل المقاييس، ليس فقط لأنه سبق غيره لتصوير شخصية الراديكالي أو المؤمن الأعمى، وبعمق تعجز عنه كتب فكرية، إذ أنها واحدة من أكثر الأعمال السردية تميزاً وروعة، تحكي الرواية جانباً مرضياً ومهووساً ترسمها شخصيات راديكالية ترتكب جرائم وأعمالاً بداعي خلخلة النظام لكنها تحكي كذلك عن الإنسان، عن حماقته وهشاشته، عن براءته. فأركل يثير تعاطف القضاة لبراءته، إنه بريء غرّر به، وهو أيضاً لم يوح بأدنى ذرة ندم، لأنه يعتقد أن ما قام به من أجل فضيلته، تلك الزاوية التي تفوق بها ديستوفيسكي عن غيره: اكتشاف ما وراء الخير والشر. والشياطين لم تدخل الخنازير هذه المرة بل البشر وألقتهم في تلك الصورة البشعة. 
g-odaini@hotmail.com 


في الأحد 09 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:57:21 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=2017