صنم الإصلاح وفرعونه (4)
حارث عبد الحميد الشوكاني
حارث عبد الحميد الشوكاني


  رؤية تأصيلية شرعية لبيان الموقف من مشاريع الفرقة والتجزأة..
  الجزء الأول
 

في الحلقة السابقة أثْبَتّ بأدلة قاطعة ووثائق بأن المشروع الفيدرالي الشيعي الذي طَرَحَتْهُ قيادات إتحاد القوى الشعبية وتبنّته أحزاب المشترك هو مشروع لإلغاء الوحدة اليمنية وتمزيق الوحدة الوطنية عبر تجزأة اليمن إلى سلطنات ومشيخات ودويلات على مستوى كل محافظة ومديرية وجَعَلْت أصحاب المشروع أنفسهم يعترفون بذلك.
وهذا تأكيد قاطع بأن المرشد العام لحزب الإصلاح (ياسين القباطي) قد إنحرف بمسار الحزب عن خطه الإسلامي الوحدوي إلى خط طائفي جاهلي إنفصالي عبر تبنيه مخططات إتحاد القوى الشعبية التآمرية على يمن الجمهورية والوحدة من خلال (مبادرة الإصلاح السياسي) (ومبادرة الإنقاذ الوطني) التي دفع حزب الإصلاح لتوقيعها ضمن المشترك المتضمنة لأطروحات اتحاد القوى الشعبية في كافة مضامينها الرئيسية (النظام البرلماني - الفيدرالية - القائمة النسبية - التعديلات الدستورية).
ومع الأسف أن قيادات الإصلاح وقواعده تبعت هذا الصنم البشري تبعية عمياء صمّاء على الرغم من أن مرشدها المضل لم يهدِ قافلة الإصلاح وهي ماضية في طريقها بل أضلها، حيث أسلم هذه القافلة الواثقة في زعيمها إلى مجموعة من اللصوص والقتلة وقطاع الطرق (قيادات اتحاد القوى الشعبية)، وهاهي هذه العصابة تقود هذه القافلة إلى هاوية سحيقة فلا يسع أي محب لهذه القافلة إلا أن يحذّر ويصرخ في وجه مرشد القافلة المضل ويسعى لتنبيه أفراد القافلة النائمين والغافلين إلى خطورة ما هم قادمين عليه قبل أن تهوي هذه القافلة في الهوة السحيقة.
أما الذي يزعم أنه يحب هذا التنظيم وهو يرى قافلته تمضي نحو الهاوية وهو ساكت فهو كاذب في حُبّه.
أقول هذا الكلام لأخواني في حزب الإصلاح لأنني أعلم أن وقع كلامي شديداً عليهم بسبب نقدي الحاد لزعيم الحزب ومرشده وبسبب تربيتهم الخاطئة القائمة على الجندية والسمع والطاعة العمياء غير المبصرة والنظرة المثالية للقيادة مما جعلهم يتعلقون بعالم الأشخاص لا بعالم الأفكار (الوحي الإلهي - القرآن المعصوم والسنة المعصومة بالقرآن).
ولكن لتعلموا أن نقدي المعلن سبقه حوار خاص بيني وبينه ونُصح ومجادلة ومشادة كلامية ثم نقد معلن للمشروع الذي تبناه المرشد دون الإشارة إلى الأشخاص وعندما لم يجدي كل ذلك معه لجأت إلى مخاطبة قيادات الإصلاح وقواعده ليأطروه على الحق أطراً لشعوري بأن هذا الرجل من شدة الفتنة التي وقع فيها ما عاد يقنعه منطق الشرع ولا منطق العقل لأنه يعاني من مسّ شيطاني إمامي في عقله وقلبه لا في جسده، هذا المسّ أيقظ فيه مشاعر العصبية الجاهلية فأصبح كالأعمى:
لا الليل يؤذيه بظلمته
ولا الصباح إذا ما لاح يهديه
والزعامات يجب أن تكون طاهرة القلب من الأهواء البشرية والإلقاءات الشيطانية لأن القرآن علّمنا أن مرضى القلوب المصابين بالعصبية الطائفية بأضغانها وأحقادها هم الذين يصغون لشياطين الإنس ووسواسهم في قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}الحج53 {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}محمد29.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}الأنعام112.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}الإسراء64.
فأول أعمال الشيطان هو إستفزاز العصبية في الناس وهو بارع في ذلك وهي سرعان ما تستفز، فإذا إستجاب الناس لداعي العصبية الجاهلية إنقسموا إلى عصبيات متباغضة متقاتلة .. عندئذ يجلب عليهم الشيطان بخيله ورجله (أي يدخلهم في حروب دائمة).
وشياطين الإمامة لم يستجب لمشروعهم الفيدرالي وتجزأة اليمن إلى أقاليم إلا من نجحوا في إذكاء مشاعرهم الطائفية الجاهلية أمثال:
- ياسين القباطي .. طائفي قيادي إسلامي.
- سلطان السامعي طائفي قيادي إشتراكي.
- عبد الله سلّام الحكيمي طائفي قيادي قومي.....الخ.
وهؤلاء هم ضحية اتحاد القوى الشعبية، والشيء المؤسف أن المصلحة الطائفية التي تحركهم وتدعوهم لتجزأة اليمن لإقامة سلطنة ودويلة في تعز هي وهمية غير حقيقية.
وليرجع إخواني في الإصلاح إلى الصحف وسيجدوا أن سلطان السامعي ذو النزعة الطائفية المشهورة هو من أول من دعا إلى تقسيم اليمن إلى أقاليم وعندها قامت ضجة إعلامية عليه، ووصلت الجرأة الطائفية عند ياسين القباطي إلى حد إصدار بيانات في الصحوة للتنديد بأي إجراءات تتخذها الدولة ضد السامعي لكفكفة إندفاعه الطائفي وتزعّمه لحراك المناطق الوسطى.
بل إن ياسين القباطي تبنى نفس الفكرة (الدعوة لتجزأة اليمن إلى دويلات وأقاليم) لكن القناع الإسلامي الذي يخفي خلفه حقيقة مشاعره الطائفية جعل إفتتان هذا الرجل يفتن تنظيماً إسلامياً نقياً طاهراً بأسره .. وهنا الخطورة.
فصدقوني أيها الأخوان أن هذا الرجل ما عادت تحركه مشاعره الإسلامية بل مشاعره الطائفية ودليلي على ذلك هو تبنيه للمشروع الفيدرالي ورفعه للقضية الجنوبية كشعار وهي راية جاهلية عصبية وفي تسليمه زمام حزب الإصلاح إلى قيادات اتحاد القوى الشعبية ألد أعداء اليمن التاريخيين وألد أعداء الإصلاح.
وسأدلل في مقالات قادمة وبوثائق أن قيادات إتحاد القوى الشعبية جعلت من إثارة النعرات العصبية هي الوسيلة الأساسية لإستقطاب قيادات المشترك، كما سأدلل بوثائق أيضاً بأن قيادات اتحاد القوى الشعبية تريد شراً بالإصلاح كحزب، لعل هذه الوثائق تساعد في تهدأة هذه الفتنة المحدقة باليمن وبحزب الإصلاح، وهي فتنة من الخطورة إلى درجة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل عنها حذيفة بن اليمان فقال له: فتنة الرجل في أهله وماله، فقال له عمر: (ليس عن هذا أسألك وإنما عن الفتنة التي تموج موج البحر). واليمن اليوم هي سفينة متداعية في وسط بحر هائج مائج.
بعد هذا الإيضاح أعود إلى ما بدأت به فأقول بعد أن دللت بأدلة قاطعة على أن المشروع الفيدرالي الشيعي مشروع يستهدف الوحدة اليمنية والوطنية عبر تجزأتها إلى دويلات وسلطنات ومشيخات سأبين حكم الشرع في الخارج عن الوحدة الداعي إلى الفرقة مثل ياسين القباطي عبر مشروعه (مبادرة الإصلاح السياسي) و (ومبادرة الإنقاذ الوطني) بعد بيان مقام الوحدة في القرآن.

التأصيل الشرعي:-
يمكننا القول بأن القرآن إعتبر إقامة الوحدة إقامة للدين وعدم إقامتها هي هدم له، فالمتدبر للقرآن بنظرة تجديدية سيجده كتاب حكم وسياسة وليس قانون أحوال شخصية.
فالقرآن هو دستور المسلمين السياسي وهو كأي دستور سياسي إهتم بتحديد شكل الدولة المسلمة وطبيعتها ووضع أسسها ومقاصدها، لكن التراث الفقهي التاريخي ركّز على فقه المحكمة في القرآن وغفل عن فقه الدولة وهذه واحدة من أخطر آثار ورواسب عصور الإنحطاط وآثار إفتراق السلطان عن القرآن مبكراً إثر سقوط الخلافة الراشدة، حتى أننا نجد معظم التراث الفقهي الذي تَضَخّم في كثير من المناحي شحيح وقليل في الفقه السياسي.
والدليل على دستورية القرآن وأنه كتاب حكم وسياسة قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}النساء105، وقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}المائدة.
بل إن القرآن إعتبر إفراد الله بشئون السياسة والحكم عبر إتباع شرعه هو جوهر العبودية لله بخلاف الفهم التقليدي الذي حصر معنى العبادة في الشعائر ولنتدبر قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}يوسف40.
كما أن ثقافة عصور الإنحطاط فصلت في ذهن المسلم مفهوم الدين عن الدولة مع أن مصطلح الدين في القرآن جاء بمعنى النظام (مجموعة التشريعات والقوانين الناظمة لشئون الدولة والمجتمع) سواء كان هذا النظام بشري أم إلهي لقوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ}يوسف76، فقوله تعالى : (فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي في نظامه وتشريعه.
وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}يوسف40، نجد هذه الآية تعتبر الحكم هو المضمون الجوهري لمفهوم الدين والعبودية لله.
ولو تدبرنا أمهات المعاني التي ركّز عليها القرآن بما يؤكد أنه الدستور السياسي لوجدنا القرآن قد ركّز على أمهات معاني سياسية غفل عنها التراث الفقهي أو تناولها تناولاً سطحياً دون أن يعطيها مكانتها اللائقة كما هي في القرآن من ذلك (مفهوم الولاية - مفهوم الخلافة - مفهوم التمكين في الأرض - مفهوم الشورى - مفهوم المنّ على المستضعفين وجعلهم أئمة - مقصد الحرية - مقصد العدل - مقصد الوحدة - مقصد السلام - مقصد الإصلاح في الأرض) ولا مجال في هذا المقام للحديث عنها، وقد أفردت لها كتاباً خاصاً أسميته (المقاصد العامة للإسلام رؤية تجديدية قرآنية) فمن أراد التوسع فليرجع إليه وسأكتفي في هذه المساحة ببيان مقصد الوحدة في القرآن على النحو التالي:
الوحدة في المنظور القرآني هي أصل من أصول كافة الأديان السماوية عبر التاريخ ومقصد عظيم من مقاصد الإسلام وفريضة جماعية من فرائض الشريعة الإسلامية.
ولذلك جاءت كلمة التوحيد لتقود إلى وحدة الكلمة (ملة - وأمة - ودولة - وصفاً وهدفاً - وطاقات بشرية وإمكانات مادية).
وقد إحتلت الوحدة في المنظور القرآني هذه المكانة لأنها أهم عوامل قيام المجتمعات والدول والحضارات، كما أن الفرقة هي أهم عوامل سقوط الدول والحضارات.
ومن إستعرض تاريخ البشرية سيجد أن أي نهضة كان وراءها وحدة سياسية (دولة واحدة) ووحدة إجتماعية (أمة واحدة) ووحدة حضارية (وحدة طاقات بشرية وإمكانات مادية).
وبالمقابل فإن المستعرض للتاريخ سيجد أن إنهيار أي حضارة أو دولة أو مجتمع كان وراءه مشروع فرقة وتجزأة وتفكيك.

أولاً: الوحدة أصل ومقصد لكافة الأديان السماوية:-
1- القرآن يبين لنا بنص قرآني قطعي الدلالة بأن الوحدة هي أعظم مقاصد الأديان السماوية عبر التاريخ لأنها أهم عوامل قيام المجتمعات والدول والحضارات كما أن الفرقة هي أهم عوامل سقوطها بقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}الشورى13.
فصريح هذه الآية أوضح لنا أن إقامة الوحدة عبر التشريع الإلهي والنهي عن الفرقة فيه أصل ومقصد من أصول التشريع الذي نزلت به كافة الأديان السماوية عبر التاريخ إبتداء من نوح وانتهاءً بمحمد (ص) ومروراً بإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وقوله تعالى (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) تأكيد بصريح القرآن بأن إقامة الوحدة هي إقامة الدين، والدليل أن المقصود بإقامة الدين إقامة الوحدة قوله تعالى (وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) فالنهي عن الفرقة منطوقاً دلّ على أن المقصود بإقامة الدين إقامة الوحدة مفهوماً، وعدم التصريح بكلمة الوحدة في هذا السياق ليس تهويناً لشأنها بل بيان لعظيم مكانتها حيث تم التعبير عن الخاص (الوحدة) بالعام (الدين) لبيان أهمية مكانة الوحدة، فكأن من أقام الوحدة قد أقام الدين كله ومن هدم الوحدة قد هدم الدين كله، وللتأكيد القرآني على أهمية مقام الوحدة بيّن لنا عقوبة الخارج عن الوحدة إلى الفرقة بأنه كالخارج على التوحيد أي أنه مشرك (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).
ولا غرابة أن تحظى الوحدة بهذه المكانة في القرآن وفي الأديان السماوية لأنها كما أسلفت أهم عوامل قيام المجتمعات والدول والحضارات، كما أن الفرقة هي أهم عوامل سقوطها ومن هذه الزاوية أكد القرآن بأن أي فهم للدين يؤدي إلى الوحدة فقد أقامه وأي فهم للدين يؤدي إلى الفرقة فقد هدمه ولم يقيمه.
2- من الأدلة القرآنية على أن الوحدة هي أعظم مقاصد الإسلام والأديان السماوية تعزيزاً للدليل السابق قوله تعالى في سورة البقرة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}البقرة213.
فهذه الآية العظيمة بينت لنا بدلالة قطعية مكانة وحدة الأمة ومحوريتها في الأديان السماوية عندما إستهلت الآية بقوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) بما يؤكد أنها أعظم مقاصد الأديان قاطبة بدليل أن الآية نفسها جعلت علة بعث الله للأنبياء وعلة نزول الكتب السماوية هو لإقامتها وتحقيقها عبر حل الخلافات التي تؤدي إلى الفرقة، فقوله تعالى (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) دلّ على أن سبب الفرقة هو الخلاف وأن سبب الوحدة هو الوفاق.
ويتعزز هذا الفهم بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن بأن منشأ وسبب غياب وحدة الأمة وحدوث الفرقة هو الخلاف قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}يونس19، فصريح هذه الآية أكد فهمنا للآية السالفة بأن سبب غياب وحدة الأمة وحدوث الفرقة هو الخلاف، ولذلك جعل الله مهمة الأنبياء والرسل والكتب السماوية هو معالجة السبب الرئيسي المانع لوحدة الأمة وهو الخلاف، والتأكيد القرآني بأن علّة نزول الكتب السماوية وعلّة بعث الأنبياء والرسل هو حل إشكالية الخلاف دليل إضافي على مقام وحدة الأمة.
والدليل القرآني الذي يعزز الفهم السابق بأن الخلاف هو سبب الفرقة وغياب وحدة الأمة بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}آل عمران105، فهذه الآية قرنت الفرقة بالإختلاف (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ) تأكيداً لما أسلفته بأن أصل الفرقة هو الإختلاف.
أما قوله تعالى {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}يونس19، فالمقصود بالكلمة التي سبقت هو أنه كلما دبّ الخلاف بين الناس بما يؤدي إلى غياب وحدة الأمة بعث الله رسولاً جديداً ليقضي بين الناس فيما إختلفوا فيه والدليل على ذلك هو قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فهذه الآية ربطت بين غياب وحدة الأمة وبعث الأنبياء ليحكموا بين الناس فيما إختلفوا فيه وجاء التعبير القرآني بقوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ) فالفاء في كلمة (بعث) تفيد الترتيب والتعقيب من جهة والسببية من جهة أخرى، أي أنه كلما غابت وحدة الأمة بعث الله نبياً أو رسولاً ليقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ويتعزز هذا الفهم بأن الرسل هم القضاة الذين يقضون بين الناس في حال غياب وحدة الأمة وحدوث الخلاف بين الناس بقوله تعالى {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}يونس47.
ويتعزز هذا الفهم بأن الرسل لا يرسلون إلا والناس في حالة فرقة وانقسام إلى شيع أي عصبيات مختلفة متناحرة قوله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}الحجر10، فهذه الآية أوضحت لنا أن الرسل بما فيهم محمد (ص) لا يرسلون إلا والناس قد إنقسموا وتفرقوا إلى شيع أي عصبيات متناحرة ليعيدوا وحدة الأمة كأعظم مقصد من مقاصد الأديان السماوية.
والدليل على أن مصطلح (شيع) القرآني هو أهم مظهر من مظاهر الفرقة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}الأنعام159، فهذه الآية بينت لنا بدلالة قطعية بأن أعظم مظاهر الفرقة هو إنقسام الناس إلى شيع أي عصبيات متناحرة متقاتلة، والدليل القرآني على أن مصطلح (شيع) يقصد به الإنقسام القائم على العصبية قوله تعالى: (هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ) القصص 15، في سياق الحديث عن شيعة موسى أي من عرقه وطائفته بني إسرائيل وعدوه من المصريين.
2- وتتوالى الآيات المؤكدة بأن وحدة الأمة مقصد عظيم من مقاصد الإسلام بقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}الأنبياء92، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}المؤمنون52.
3- وفي هذا السياق الموضوعي القرآني يجب أن نفهم هذه الآية في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119}) هود.
فبعض العلماء الذين يفسرون القرآن بطريقة جزئية زعموا أن الإختلاف سنة إلهية من خلال هذه الآية ولا يمكن التخلص منه، بل بعضهم بالغ في ذلك فزعم أن الخلاف رحمة، والردّ على هذا الفهم سيكون من عدة زوايا كالتالي:-
أ‌- أولاً الآية نفسها لم تذكر أن الخلاف هو أمر لا مناص منه بشكل مطلق كما زعم البعض بدليل قوله تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فقوله تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ) فهذا الإستثناء دلّ على أن المرحومين خارجين من الخلاف وبالتالي فمن زعم أن الخلاف سنة إلهية فقد أخطأ.
ب‌- الخلاف في سياق الآية نفسها جاء في سياق ذم لا سياق مدح بدليل قوله تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فالبيان القرآني بأن المرحومين من الله لن يكونوا مختلفين دليل على أن الخلاف هنا جاء في سياق الذم والعذاب، ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }هود119.
ج- أما إذا إبتعدنا عن المنهجية الجزئية المغلوطة لتفسير القرآن وأعملنا التفسير الموضوعي بتجميع آيات الموضوع الواحد في سياق واحد وتفسير القرآن بالقرآن بعد تمييز محكمه من متشابهه، أقول إذا رددنا هذه الآية المتشابهة إلى محكم الآيات السالفة فسنجد أن الفهم السطحي التقليدي لهذه الآية بأن الخلاف حقيقة قرآنية سنجد هذا الفهم يتعارض مع الآيات السابقة المحكمة لأن القول بأن الخلاف حقيقة ثابتة في القرآن يترتب عليه إستحالة قيام وحدة الأمة لقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، ولو صح هذا الفهم لما أمر الله بأن يكون الناس أمة واحدة في قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، وكذلك الآيات التي أمرت بإقامة الدين وعدم الفرقة فيه ولما أمر الله بالإعتصام بحبله ولكان معنى هذا أن آيات القرآن متناقضة يضرب بعضها بعض.
د- ولو صحّ هذا الفهم الخاطئ بأن هذه الآية قررت أن الخلاف سنة إلهية لا مناص منها لكان معنى هذا أنه لا سبيل لحل هذه الخلافات ولكن القرآن أخبرنا بصريح آياته أن علّة تنزيل الكتب السماوية وبعث الأنبياء والمرسلين محصور في هذا المقصد العظيم (حل الخلافات) (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) فالآية بصريحها طرحت الخلاف المضاد لوحدة الأمة كإشكالية نزل الوحي الإلهي لحلّها لا كأمر إيجابي يجب الحفاظ عليه. وقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}الشورى10، فالقرآن مبين وليس مبهم، وحاكم وفاصل في الخلافات بصريح آياته ومن زعم غير ذلك فقد خالف صريح القرآن وأنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
حتى المقولة التي نرددها دون وعي (القرآن حمّال أوجه) إذا فُهِمَت أنها قاعدة فهذا يعني أن القرآن عامل خلاف لا عامل إتفاق وهذا مناقض لصريح القرآن كما أسلفت فالقرآن إنما يكون حمّال أوجه إذا تتبع الإنسان المتشابه منه وهذه طريقة أهل الزيغ (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ) آل عمران 7.
أما من فسر القرآن بطريقة أهل العلم الأتقياء الذين يبدأون بأمهات المعاني ومحكم الآيات ثم يردون المتشابه (فروع المعاني الظنية) إلى أصولها القطعية (المحكمات) فإن القرآن عندئذ يغدو مبيناً وحاكماً في الخلافات وفاصلاً وصدق الله العظيم القائل: (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) آل عمران7.
وعلى هذا الأساس نقول أن الآية السالفة تعني: أن الله لو شاء لخلق الناس مسيّرين لا مخيّرين ولو كانوا كذلك لكانوا أمة واحدة جبراً لكنه خلقهم أحراراً مخيّرين فكان شأنهم الإختلاف بدليل قوله تعالى (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) ولكن رحمة الله أنزلت للبشر وحياً إلهياً يدلهم على أن وحدة الأمة مقصد عظيم لإنقاذهم من الإنقسام إلى عصبيات متحاربة متقاتلة فيدخلوا في رحمة الوحدة العظيمة وصدق الله العظيم القائل: (وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ{8}) الشورى، فالداخلون في الرحمة في هذه الآية هم المقصودون بقوله تعالى: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ).
فالخلاف خلافان: خلاف تضاد وخلاف تنوع وخلاف التضاد غير مقبول وهو الخلاف على الأصول والمقاصد كالوحدة والعدل والسلام، وخلاف التنوع خلاف محمود لأنه يؤدي إلى إثراء موضوع البحث وهو الخلاف في (فروع العلم ووسائله المتغيرة) لا في أصوله ومقاصدة الثابتة وهذا باب عظيم من أبواب الإجتهاد سأضرب أمثالاً لتوضيحه:
العلم منه ما هو أهداف ومقاصد ثابتة ومنه ما هو وسائل وجزئيات متغيرة فمن المعلوم مثلاً أن الرسول (ص) حث المسلمين على إستخدام السواك عند كل صلاة ولو سألنا أنفسنا لماذا حث الرسول (ص) على إستخدام السواك؟ وما هو مقصوده؟ لكان الجواب أن المقصد هو نظافة الأسنان والوسيلة هي السواك ومن أدرك الفارق بين المقصد والوسيلة سيدرك أن مقصد نظافة الأسنان يمكن الوصول إليه اليوم بعشرات الوسائل وبالتالي فالعالم المدرك للقاعدة الأصولية الهامة (الأمور بمقاصدها) لن يجمد عند وسيلة واحدة وهي السواك وسيعتبر كل وسيلة لنظافة الأسنان تؤدي الغرض، أما العالم الجامد فيعتبر أي وسيلة جديدة بدعة، وهذا دليل على عدم الفقه وإغلاق لباب عظيم من أبواب الإجتهاد، وهذا مثل بسيط مع أن كل علوم الشرع قائمة على هذه القاعدة (مقصد ووسيلة) وعدم التمييز بينهما يؤدي إلى جمود خطير في العقلية الإسلامية.
ولمزيد من الإيضاح لخطورة هذه المسألة أضرب مثلاً آخر: فالرسول (ص) عندما تعرض أصحابه للأذى في قريش وأمرهم بالهجرة للحبشة هل يعني هذا أن كل من تعرض للأذى وجب عليه الهجرة؟ ولبيان هذه المسألة نسأل أنفسنا حتى نعرف كيف نحلل سيرة الرسول (ص) وكيف نستفيد أيضاً في فهم الشريعة وفهم العبرة من التاريخ نسأل أنفسنا: ما كان مقصد الرسول (ص) من هجرة أصحابه إلى الحبشة؟ والجواب هو (البعد الأمني) فإذا أدركنا أن البعد الأمني هو المقصد.. فهذا المقصد يمكن التعبير عنه بمئات الوسائل، والجمود عند وسيلة واحدة عدم فهم لحقيقة الشريعة وحقيقة الواقع وحركة التاريخ.
وكذلك هجرة الرسول (ص) إلى المدينة كان مقصدها (التمكين السياسي) لا البعد الأمني فالعبرة في الهجرة في المقصد الثابت (التمكين السياسي) لا في الوسيلة المتغيرة (الهجرة) فالعلماء الذين لا يميزون هذه الفروق يقعون في أخطاء فادحة ويحطبون كحاطب في ليل مظلم.
حتى التاريخ عندما نحاول أخذ العبرة منه كما أخبر القرآن يجب إخضاعه لهذه القاعدة (المقاصد والوسائل) وبالتالي سندرك أن العبرة من التاريخ لا تكون بتدوين وقائعه فحسب وإنما بتدوينها أولاً وتحليلها ثانيا لأخذ العبرة.
وعلى هذه القاعدة يمكننا القول أن التشريع الإلهي ذو طبيعة تشريعية مرنة لا جامدة لأنه يضع القواعد الكلية السننية المجردة الثابتة ولا يشير إلى التفاصيل التطبيقية المجسدة.
وفي إطار خلاف التنوع لا ينبغي الخلط بين وسائل الوحدة ووسائل الفرقة فكل وسيلة للوحدة مقصودة، وكل وسيلة للفرقة مرفوضة.
والفيدرالية كنظام سياسي قد حدد علماء النظم السياسية متى تكون عامل وحدة ومتى تكون عامل فرقة على النحو الذي أوضحته في الحلقة الثانية.

ثانياً: كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة:-
لقد أوضحت سلفاً بأن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة (ملة - وأمة - ودولة - وصفاً وهدفاً - وطاقات بشرية وإمكانات مادية)، والدليل القرآني على أن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}الأنبياء92، وقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}المؤمنون52، فهاتين الآيتين العظيمتين نستخلص منهما عدة دلالات على النحو التالي:-
1- الدليل على أن كلمة التوحيد تقود إلى توحيد الكلمة قوله تعالى (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فهذه وحدة الكلمة، وقوله تعالى (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) فهذه كلمة التوحيد.
2- ونلاحظ في الآيتين إقتران الوحدة بالتوحيد بما يؤكد أهمية مقام الوحدة في المنظور القرآني وأنها مقصد من أعظم مقاصد الدين بل نلاحظ تقديم وحدة الأمة على كلمة التوحيد (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) وقد يبدوا هذا التقديم للوحدة في الآية على التوحيد غريباً ولكن إذا أدركنا رحمة الله بخلقه فلن نستغرب لأن العبودية لله بخلاف العبودية لغيره تجر نفعاً للمخلوق لا نفعاً للخالق بدليل قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57}) الذاريات.
فصريح هذه الآية نفى إنتفاع الخالق بعبودية الجن والإنس له (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) بما يؤكد إنتفاع المخلوقين بعبودية الله، ويتعزز هذا الفهم بقوله تعالى: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ{6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ{7}) الفاتحة.
فهذه الآية بينت لنا أن هدى السماء يهدينا إلى أقصر الطرق المؤدية إلى النعمة الشاملة في الدنيا والآخرة وليس المقصود بالصراط المستقيم والنعمة هنا صراط ونعمة في الآخرة فحسب كما هو الفهم التقليدي والدليل على ذلك بمنهجية تفسير القرآن بالقرآن قوله تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى{123} وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124}) طه.
إذن فصراط النعمة المقصود به الخير والنعمة في الدنيا والآخرة ولما كانت وحدة الأمة هي الأساس والبنية التحتية لإقامة المجتمعات والدول والحضارات وصفها الله بالنعمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}آل عمران103.
فقوله تعالى (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) دلالة قطعية على أن صراط النعمة هو صراط في الدنيا والآخرة وأن أعظم النعم (وحدة الأمة) وأعظم النقم (فرقتها) (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)، فالوحي الإلهي قرين الوحدة والنعمة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) والوحي الشيطاني قرين الفرقة والنقمة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}الأنعام112

ثالثاً: رسل الله عبر التاريخ دعاة توحيد ووحدة:
إن المتدبر في القرآن الكريم سيدرك أن رسل الله عبر التاريخ البشري كما كانوا قيادات لحركات تحرر ثورية ضد الطاغوت لإنجاز الهدف الأول والشق الأول لكلمة التوحيد عملية النفي والهدم الثورية لحكم الطاغوت والانتصار للأغلبية المستضعفة من أفراد الشعب والأمة (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ).
سيدرك أيضاً أن رسل الله عبر التاريخ أنجزوا المرحلة الثانية من مراحل التغيير (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهي مرحلة البناء والتنمية وإقامة مشاريع نهضوية حضارية ولذلك نجدهم دعاة توحيد ووحدة باعتبار الوحدة هي عنوان مرحلة النهوض الحضاري الشامل والوحدة بالمفهوم الحضاري النهضوي تبدأ بالوحدة السياسية (وحدة الدولة) ثم بالوحدة الاجتماعية (وحدة الأمة) ولا تتوقف عند هذا الحد بل تصل عبر الخطط والبرامج إلى مرحلة يمكن تسميتها الوحدة الحضارية النهضوية (وحدة الطاقات البشرية ووحدة الإمكانات المادية) التي تتضافر جميعاً ولا تتصادم لتحقيق أهداف مشتركة (المصلحة العامة) والمصالح الشخصية تتحقق ضمن الصالح العام ولا تسبقه [العقل الجمعي للأمة (العلم) والإرادة الجمعية للأمة (الإيمان) والإنجازات التنموية النهضوية الحضارية (العمل الصالح) (مبررات العقل ودوافع القلب وحركة اليد)].
وأهم شروط وحدة التنمية والنهضة والحضارة هو عنصر التنمية البشرية (عالم الأشخاص) فإذا أنجزنا إعداد الكوادر القيادية لإدارة شئون الدولة نكون قد أصلحنا (عالم الأفكار) لأن ثروة المجتمع تقدر بما يملكه في عقول أبنائه من أفكار لابما في جيوبهم من أموال وبإصلاح عالم الأشخاص وعالم الأفكار يتم إصلاح عالم الأشياء فيحصل البناء والإعمار للأرض ويعم الخير والرفاه والنعمة أفراد المجتمع لأن بناء الحضارات لا يكون باستيراد منتجات حضارة أخرى وإنما بعقول وجهود أبناء المجتمع والحضارة نفسها.
فإذا أدركنا هذه الأبعاد للوحدة سندرك عندئذٍ معنى قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52} فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{53} المؤمنون:51-53.
إذاً كل رسل السماء كانوا دعاة توحيد ووحدة بل أقاموا مشاريع وحدوية في الواقع وكان هذا أبرز ما فعلوه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}.
وعبر المشاريع الوحدوية التي أقامها رسل الله عبر التاريخ أقاموا مشاريع نهضوية حضارية وتنموية { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51}.
وبهذا نفهم قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ{15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ{17} سبأ: 11-17.
إن كل المشاريع النهضوية الحضارية عبر التاريخ ارتبطت برسل الله وبديانات السماء وإن دورات السقوط الحضاري تحصل بسبب الانحراف عن حقيقة هذه الأديان.
وبهذا يتضح لنا مدى العلاقة بين المشاريع النهضوية الحضارية { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51}.وبين المشاريع الوحدوية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}.
 
 
 
 *عن نشوان نيوز:


في الأحد 30 مايو 2010 05:34:26 م

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=204