|
ثمّة إجماع على أن الصحافة الثقافية في بلادنا تشهد حالة ركود غير متوقّعة على مستوى الصحف اليومية والأسبوعية، وهناك فجوة كبيرة بين الثقافي والإعلامي، بينما يبدو أن للوضع السياسي العام والمتدهور تأثيراً مباشراً، مع أن العلاقة لم تكن طيبة بين الصحافة والملاحق والصفحات الثقافية فيما مضى، وخلافاً لملحقي «الثورة الثقافي» و«الجمهورية الثقافية» التي تحوّلت إلى صحيفة قبل أن تتوقف؛ استمرّت الصفحات الثقافية في الصحف اليومية والأسبوعية، متذبذبة، ضعيفة لا تبشّر بنقلة نوعية على مستوى الكم أو الكيف.
واقع الحال أن اليمن تفتقد إلى أساليب التسويق الثقافي والتخطيط الثقافي الاستراتيجي، واليوم ـ برغم كثرة الجرائد اليومية ـ إلا أن حيز المادة الثقافية لا يكاد يُذكر، فالواضح هو طغيان المادة السياسية على مجمل الصحافة اليمنية، تليها المادة الرياضية، والأرجح أن استمرار هذا الحال الثقافي الصحفي في تردّياته المعهودة سيلقي بظلاله سلباً على الثقافة والتطوّر في اليمن؛ لكن بالرغم من ذلك ينتابني شعورٌ بالأمل والتفاؤل لازدهار الصحافة الثقافية مستقبلاً.
والصحيح هو أن الصحف أسهمت في الدفع بالخطاب الثقافي على قدر استطاعتها وإمكانياتها؛ إلا أن السياسة السطحية المجوّفة هي الطاغية في الخطاب العام، ولا مكان لأي فعل ثقافي محترم.
بشكل عام شكّلت صحيفة «الثقافية» وملحق «الثورة الثقافي» اللذان توقّفا منذ سنوات حضوراً أسبوعياً مهمّاً للقيمة الثقافية والأدبية والفكرية والتنويرية، كما كان لهما حضورهما المتميّز داخل المشهد الثقافي مهما اختلفنا معهما، وبالذات شللية الأسماء والقضايا المنمّطة، فالمعنى أن غيابهما ترك فراغاً مهولاً، وعلى وجه الخصوص صحيفة «الثقافية» التي كانت قد حقّقت رواجاً لافتاً.
والأغرب هو تراجع دور الصحافة الثقافية اليوم قياساً بالسبعينيات والثمانينيات مثلاً؛ على أن هناك جهوداً اليكترونية معتبرة تستحق الإشادة في السياق؛ وعلى رأسها مثلاً موقع «عناوين ثقافية – وجدارية» في حين يبدو من الثابت أن معظم الصحف اليمنية لا تخرج خارج اليمن ما يعني أن الأفضلية الانتشارية للمواقع الاليكترونية.
ولنا أن نكتشف بسهولة أهمية الإعلان مقارنة بالصفحة الثقافية في أي مناسبة؛ بحيث يأخذ حيزها عند أقرب فرصة لدى مجمل الصحف الأهلية والحزبية والرسمية هنا.
إجمالاً لنا أن نقرأ أيضاً لأسماء يمنية مبدعة في صحف وملاحق ومجلات عربية بينما يغيب الاعتناء بها في الداخل، ولعل من أسوأ ما تتميّز به الصحافة الثقافية الورقية ضيق مساحة الحرية فيها على خلاف المواقع الثقافية بالقياس، كما أن المحرّرين للصفحات الثقافة في أي صحيفة يكافحون من أجل استمرارها، حيث تكون الضحية الأبرز في حال تأجيل أية صفحة.
هذا النمو البطيء سببه الرئيس العثرات المادية وضعف التمويل وأزمات الحريات والرقابة برأينا، ما ينبغي معه لوزارة الثقافة العمل على دعم المشروعات الثقافية بدلاً من الأفراد كما هو حاصل للأسف، ثم إن لاستمرار وجود الخطاب الثقافي في الصحافة اليمنية معنى كبيراً لإسهامها المؤثّر في الارتقاء بالوعي المجتمعي.
فلقد توقّفت مطبوعات مهمّة منها مجلة «اليمن الجديد» مجلة «الكلمة» مجلة «المعرفة» صحيفة «البريد الأدبي» مجلة «صيف» منشور «انزياحات» منشور «طيارة ورقية» بينما بقيت مجلات «الحكمة» و«الثقافة» و«غيمان» و«المنارة» موسمية تبعث على الأسى أكثر مما تبعث على الفرح..!!.
لكن من المهم الإشارة هنا إلى مكابدات تستحق التقدير أبرزها ملحق صحيفة «اليمن اليوم» وكذا صفحتي «الثوري» إضافة إلى صفحات «المصدر» و«الوحدوي» و«الأولى» فضلاً عن «النداء» و«مأرب برس» قبل توقفهما، كما على رأس هذه الصحف تأتي صحيفة «التجمُّع» التي مازالت تفرد مساحة أوسع منذ سنوات للمادة الثقافية والأدبية والفكرية رغم إمكانياتها الضئيلة.
وفي السياق نتذكّر أيضاً تجارب شبابية مثل صحيفة «رصيف» التي كانت مشروع تخرُّج مبشّر؛ إلا أنها توقفت عند حالتها تلك ولم تتطوّر إلى صحيفة كما كان مؤمّلاً، كما نحيّي هنا صحيفة “عدن الثقافية” التي مثّلت فعلاً تبشيرياً لصحيفة ثقافية؛ لكنها سرعان ما تعرقلت.
جدير بالانتباه أنه لو دقّقنا بأسماء معظم المحرّرين في الصحف للصفحات والمطبوعات الثقافية اليمنية المختلفة؛ سنجدهم على ارتباط بالإبداع الأدبي، ويبقى من المعروف القول إن عمر الصحافة الثقافية في البلد يعود إلى الربع الأول - من القرن الماضي، حيث المحاولات الأولى المتواضعة ذات الإسهام الريادي لـ “الحكمة”و“البريد الأدبي” في حين يمكن القول إن الخطاب الثقافي ازدهر شمالاً وجنوباً في السبعينيات أكثر من الآن؛ وتلك مفارقة المفارقات طبعاً؛ لكن قياساً بالحاجة القرائية الماسة؛ تبدو الجهود الشحيحة بقعة ضوء زاخرة بالأمل كونها تتحدّى عتمة الواقع اللا محدودة المكلّلة باليأس.
والحاصل هو أننا نحتاج إلى صحافة ثقافية جادة ومدعومة تتميّز بالروح المهنية التجديدية ما يجعلها تلبّي الاحتياجات ولا يهدّدها الاضمحلال أو التوقف، ولتتخيلوا حجم الفنانين التشكيليين والشعراء والقاصّين والرواة والنقّاد والمفكّرين الذين ليس لهم مكان لائق اليوم في الصحافة المطبوعة، كما لكم أن تتخيلوا أن كل الإرث الثقافي اليمني الفلكلوري العريق والمعاصر أيضاً بلا حاضنة موضوعية تعبّر عنه.
بل إن من المضحك المبكي في ظل ما يتردّد منذ سنوات عن تعز عاصمة الثقافة في اليمن أنها بلا منتج صحفي ثقافي واحد حتى اللحظة؛ بمعنى آخر هناك قضايا ثقافية ومعرفية ساخنة تنتظر طرحها بشكل ملائم وعبر أقنية صحفية حيوية من الناحيتين الجمالية والفكرية، كما أن هناك ازدهار أدبي ينتظر التعريف به والانتشار.
والأرجح أن استمرار هذا الحال المتردّي سيلقي بظلاله سلباً على الثقافة في اليمن، ثم إن الأوضاع الاقتصادية المتردّية ضاعفت من الضغوط الطباعية على أغلب الوسائل، كما أدّت إلى هجرة قلم المبدع اليمني إلى الخارج بحيث تزداد هذه الهجرات مع تقديم المطبوعات الثقافية العربية مكافآت مجزية لأصحاب المواد والنصوص، كما أن هناك فجوة رسمية كبيرة تباعد الفعل الثقافي بين الدولة والمجتمع؛ حتى منظمات المجتمع المدنية لدينا مجرّد منظمات شللية بلا استراتيجية وينخرها الفساد أيضاً، وكذلك ثمّة أحزاب وأندية وجامعات ومدارس بلا أنشطة ثقافية؛ فضلاً عن أنه لا مسرح ولا سينما ولا دور نشر، لا أي شيء من البُنية التحتية الحقيقية.
لكن في المقابل يبقى أفق التغيير اللا نهائي مسكوناً بالخطاب المعرفي أكثر من غيره، ولذلك سيخلق هذا الجيل أقنيته الثقافية باعتبار أن ما يجري اليوم هو حالة حصار يجب أن تكثف الجهود الثقافية لتجاوزها وعدم الرضوخ التام لإشكالياتها، وعلى رأس التحدّيات تحدّي الإفلات من مصيدة السياسيين الذين نرى أنهم من أبرز معوّقات تطوّر الثقافة والصحافة الثقافية اليمنية.
بالمحصلة سيتساءل المرء: هل مرّ التغيير من هنا، ما هي الثورة بالضبط إن لم تكن ثورة مفاهيم ورؤى ثقافية في صميمها..؟!.
ولنا أن نجيب أن النظام السابق عمل على استلاب الثقافي وإفراغه من مضامينه تدجيناً للفكر الحُر في المجتمع اليمني، ومن أجل أن يكون جزءاً أساسياً يدور في فلك السياسة الرسمية الممجّدة لمواقف القائد الضرورة والرمز الوطني الأوحد، فضلاً عن تعزيز وخدمة كل الرطانات الشمولية التي استهواها ما قبل الوحدة وما بعد حرب صيف 94م، فلقد كان لذلك النظام أثره الحاد على الفكر والحركة الثقافية؛ إذ قام بتخريب الذائقة والحس، وبالمقابل أسهم في ازدهار الوعي الرديء الذي لا يجترح الشغف، إضافة إلى الوعي السطحي الذي لا يحترم قيمة المغايرة الفكرية، وبالرغم من كل هذا استمرّت الحركة الثقافية اليمنية تثير بجدّية لافتة عديد إشكاليات ومعارك فكرية ونصّية أسهمت في خدش الوعي المنكفئ على تقليديته لتفتح ثغرة للضوء.
خلاصة القول إن أية ثورة في السياسة تغيب عنها الثورة في الثقافة تبقى بلا معنى عميق، كما أن التغيير فعل ثقافي، وكذا المدنية فعل ثقافي؛ بينما الإنسان إحساس عاطفة تذوّق، معرفة جمال فلسفة وليس معدة تلهث وراء لقمة عيش تنفي عن الإنسان إحساسه بحاجاته إلى الإشباع الفني والجمالي والفكري.
وإذا كانت الثورة هي التصادم بين موقفين أو عقليتين في مناخ من تغيُّر الحياة ونشأة ظروف جديدة جديرة بأحلام الثورة، فإنه دون التثوير الثقافي لن يؤسّس المجتمع فضيلته التغييرية كما ينبغي، وبالتالي لن يكون المجتمع بالنسبة إلى المستقبل على قدر تلك الأحلام الكبرى؛ بل ستتراكم الخيبات سياسياً وقيمياً وثقافياً أيضاً، وعلى المؤسّسات الثقافية ضمان استمرار فعل التنوير وإكساب عناصر الثقافة أولويتها في الدولة والمجتمع.
fathi_nasr@hotmail.com
في الأربعاء 19 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:32:53 ص