|
من المبكر تكوين انطباع عن الحكومة الجديدة برئاسة الأستاذ خالد بحاح يبنى عليه تقدير متوازن لمدى فهمها للأزمات القائمة وتصوراتها لمعالجتها وقدرتها في ضوء الفهم والتصور على إخراج البلاد من ظلمة المحنة إلى شرفة الأمل.
المتاح ملاحظات أولية لا ترقى إلى مستوى الانطباع الكامل والنهائي. وأولها أن القسم الأكبر من أعضائها موظفون بيروقراطيون لا تختلف علاقتهم بالسياسة عن المواطن العادي المهتم بالمتابعة وليس بالحركة، وربما أن بعضهم يفهم في شئون الكرة أكثر مما يعرف في الثقافة السياسية وما يجيد من فنونها بالممارسة، فضلاً عن أن يتصل بها كعلم. لا يستثنى الوزراء الذين شاركوا في حكومات سابقة إلا بمقدار ما يمكن أن يكونوا تعلموه من خلال وجودهم فيها، ولا يستثنى معهم الوزراء القادمون من أحزاب سياسية، قديمون وجدد إلا بحساب خبرة في تنفيذ قرارات المراكز العليا. وحتى مع وجود البعض منهم في تلك المراكز فليس بينهم من عرف أنه ضمن الحلقة الضيقة المعنية بصنع القرار. إذ إنه في كل جماعة وكل حزب بل وفي كل دولة ثمة مطبخ خفي لصناعة القرار قبل أن يجري إخراجه باسم الهيئة العليا التي تشكل الهيئة القيادية المعلنة والحاضرة عند جموع الأعضاء وفي أوساط العامة.
والملاحظة الثانية أن هناك في الحكومة، غير الاختصاصيين العاديين خبراء في الشئون المعنية بها الوزارات التي يتولونها. وفي حدود ما أعرف ومن أعرف فقد أضع في هذه الخانة وزراء التربية والتعليم العالي والتخطيط، مع إضافة ما يحكى عن وزير التربية من أنه يتمتع فوق العلم بشخصية قوية وهما صفتان تحتاج إليهما وزارة التربية بما فيها من إرث ثقيل وفساد مريع. وربما أزيد أن الخبرة مشفوعة بالنزاهة. وحيث تنقص المعرفة بأغلب الوزاء الجدد فإن هذه النماذج قد تعطي مؤشراً إلى أن معيار النزاهة كان حاضراً في أذهان من فتشوا وبحثوا واختاروا، رغم وجود ما يرجح الانحياز لفكرة أن حضور المعيار لا يحمل معنى الشمول.
والملاحظة الثالثة أنه حدثت هناك تغطية شواغر للوزراء المستمرين من الحكومة السابقة بحيث وضع غير ذوي الاختصاص في مواقعهم الجديدة. لكن هذا لا ينفي الصفة الغالبة التي اهتم بها صانع القرار وهو تشكيل حكومة تكنوقراط وفقاً لما اتفقت عليه القوى السياسية عندما تراجعت عن مبدأ التشارك بالحصص فجاءت في واقع الأمر مزيجاً من التكنوقراط والبيروقراط.
لقد تأخر الوقت لعرض وجهة نظر ما كانت تحبذ حكومة تكنوقراط وإنما تميل إلى حكومة سياسية تتواءم قدراتها مع ظرف عصيب وعاصف تمر به البلاد، حيث تنتفي الحاجة لوزراء تنحصر اهتماماتهم في الأمور التفصيلية الخاصة بالشئون التي يديرونها وتبرز الحاجة إلى سياسيين يمتلكون خيال الرؤية وجسارة القرار. إن الخيال ضروري للإلمام بالشأن العام وتصور الحلول الناجعة للمشاكل الكبرى، والخيال معزز بالجسارة لازم للقرارات الشجاعة والسليمة. ولا يقصد بالحكومة السياسية أن تتقاسمها الأحزاب بممثلين من عندهم في النهاية مجرد موظفين في خدمة من اختارهم لشغل الكراسي، وإنما المراد انتقاء أفضل السياسيين في البلاد بصرف النظر عن انتماءاتهم واختياراتهم الايديولوجية ممن تتوفر لديهم شمول الرؤية ومهارة التفاوض واتخاذ القرار الصائب في وقته وزمانه، ففي علم السياسة لا يفيد القرار السليم في غير وقته بالتقديم أو التأخير كما لا يجدي القرار السيء وإن جاء في وقته. سوف يقتضي ذلك بالطبع أن يكون السياسيون المختارون من عيار يوزن بميزان الذهب بحيث يتعالون عن مصالح الأحزاب والجماعات ويحلقون مع المصلحة الوطنية العليا دون سواها.
ومن غير شك أن اليمن لا تخلو من صفوة الرجال دونما أية حاجة لتسمية أشخاص لكي أتحاشى محظور حق انتقاء الأفضل من المعدن النفيس.
أما وأن ذلك لم يتم، أما وقد جاءت الحكومة على هذا فإن أنظار الناس تتوجه لرئيس الوزراء. ومن غير ما حاجة للتزلف أو الاسترضاء فقد كان وجوده على رئاسة وزارة النفط صفحة بيضاء في حدود ما أعلم. وفي حدود هذا العلم فإنه خاض حرباً لم تنجح مع قيادات من ذوي النفوذ عسكرية وقبلية وسياسية أدت إلى إقصائه بقرار من الرئيس السابق في المرة الأولى وبضغط من علي محسن في المرة الثانية. وليس هذا مهماً الآن، إنما المهم أنه رجل قرار. هكذا يقولون ولكن هل يتمتع بقوة الخيال؟ وهل يستطيع أن يرتفع بأداء الحكومة لمواجهة التحديات الكبرى بدلاً من الانهماك في التفصيلات الصغيرة؟
أعتقد أن بيان الحكومة الذي ستتقدم به لنيل الثقة سيجيب عن السؤالين. وعندئذ يمكن تكوين انطباع أولي عن حكومته، وبناء تصورات لمسار المرحلة المقبلة توقعاً لفرص النجاح أو إيقاناً بالفشل.
وفيما سبق دأبت الحكومات على التقدم ببرامج تحمل وعوداً بإنجازات على مستوى كل وزارة وهيئة. وفي العادة كانت مطمئنة إلى أنها لن تطالب بجردة حساب حين تخلي مكانها لحكومة لاحقة. وقد كشف أداء حكومة باسندوة عن أكبر خيبة، أذكر أن نائب وزير فيها ناولني برنامج الحكومة بعد سنتين من تشكيلها وأخذ يقرأ الأرقام ويطلعني على المحقق في الواقع، وكانت النتائج كلها تراجعاً نحو الأسوأ، ثم ذهبت الحكومة كسابقاتها بلا معقب. لهذا يتطلب الأمر بيان محاسبة سنوي من الحكومة أمام البرلمان، يتجاوز المحاسبة الكمية من خلال الحساب الختامي للدولة مقارناً بالموازنة العامة التقديرية، بل تتوجب المحاسبة القيمية التي تعكس الحالة العامة للبلاد وما إذا كانت نقلة إلى الأمام تحققت أو وقفة في المكان أو رجعة إلى الخلف.
وهكذا، فليس مطلوباً من الحكومة الحالية أن تخبرنا، عن البرلمان أو غيره، أنها ستحقق نمواً معيناً في الداخل أو ستنشئ مرافق عامة أو غير ذلك من الوعود التقليدية التي تعتبر من صميم عمل أي حكومة. ولئن فعلت ذلك سيكون الانطباع سيئاً.
إن المتوقع من الحكومة ألا تتقدم ببرنامج في حجم كتاب، وأن تجمل برنامجها في ورقتين أو ثلاث تتناول قضية واحدة هي استعادة الدولة، وليكن هذا هدفاً تبنى عليه استراتيجيات ووسائل تتعلق بالأمن واسترجاع سلاح الدولة وإعادة الثقة للقوات المسلحة وجهازي الشرطة والعدالة ووضع أسس متينة لبنائها من جديد، على أن تتضمن الاستراتيجية وهي المهمة الصعبة، الوسائل المناسبة لإقناع جماعة الحوثي بالكف عن الوجود كتنظيم مسلح والتكيف مع الحياة السياسية كحزب يسعى إلى السلطة بالوسائل السلمية.إن برنامجاً يقدم الوزارات في هيئة جزر منعزلة سيصيب الشعب بالاحباط والمرارة، على العكس فإن برنامجاً يعكس عقلاً كلياً للحكومة يبعث الأمل، على الأقل يفتح نافذة إليه.
في الثلاثاء 25 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 08:21:37 ص