الإمام أحمد... معارضاً
استاذ/عباس الديلمي
استاذ/عباس الديلمي
لايخفى على قارئ ما شهدته وتشهده أروقة ودهاليز وبلاطات السلطة ـ قديماً وحديثاً ـ من خصومات تنافسية، وصراعات نفوذ ومصالح، بين أجنحة السلطة ودعائم الحكم، وكما أن هناك من دفع رأسه ثمناً لذلك، هناك من خرج معارضاً تحت شعار براق، وهناك من سلك مسلك المعارض من داخل السلطة بأسلوب تقديم النصيحة لرأس السلطة أو النظام وتحذيره ممن حوله ـ أوبعضهم ـ وتحريضه عليهم كعوامل هدم لمُلكه أو حكمه. 
ولاستحضار شاهد على المعارضة من داخل النظام، هل نختار الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين «رحمه الله» ونقف أمامه كمعارض، وإن بصورة مختصرة.. 
فهذا الإمام أحمد أبرز وأشجع أولاد الإمام يحيى، مدفوعاً بما أسهم به في إقامة مملكة والده «المملكة المتوكلية اليمنية» بعد إخراج الأتراك، وما قام به من دور في إخضاع المعارضة والتمردات في حاشد والبيضاء والزرانيق، وبسط سلطة الدولة وهيبتها ونفوذها على كل ما كان يسمى بـ« المملكة المتوكلية اليمنية»، ها هو يرى أنه الأجدر بأن يكون ولياً للعهد والرجل الثاني إن لم يكن الأول في مملكة رفع دعائهما. 
ولأن والده الإمام العالم الزيدي المحاط بمجموعة من علماء الزيدية وفقهائها لا يرى مشروعية دينية لولاية العهد أو توريث الحكم، وفقاً لرؤية المذهب الزيدي الذي كان يرى في ذلك مخالفة لأسس الحكم في الإسلام، فقد اتجه أحمد إلى تعز، ليزيح أحد أركان مملكة والده وقادتها الأمير علي الوزير ويبرز أحقيته بولاية العهد التي حجبها عنه والده، تقيّداً بالفقه الزيدي، وتحاشياً لنقد واحتجاجات علماء الدين في مذهب يرفض التوريث، إضافة إلى أن هناك بين إخوة أحمد من هو أكبر منه سناً. 
ذهب أحمد إلى تعز فكان لأحمد ما أراد، ولكي لايستكثر عليه والده الإمام وحاشيته من رجال الدين ما يقوم به أو أنه قد نصّب أو جعل من نفسه إماماً في تعز مقابلاً لوالده الإمام في صنعاء، لأنه توقّع أو لمس عدم الرضا عن بروزه وحضوره القوي من تعز، فقد أقدم على تذكير والده بشيء من المنّ المبطن بأن لولاه ولولا جهوده ومعاركه التي قادها لإخضاع التمردات على المملكة الوليدة ومقاومتها لما استقام لهذه المملكة عمود أو بسطت تواجداً وفرضت أمناً في كل أنحائها ويتضح ذلك من شواهد ومؤشرات منها القصيدة التي صاغها وبناها على هدفين رئيسين، أولهما تذكير والده بجهوده في إقامة الدولة، وثانيهما معارضته لفريق ممن يشكلون دعائم وأركان النظام، ومن يرى أنهم يجعلون من الدين ولباسه وسيلة من وسائل فرض نفوذهم وحماية مصالحهم. 
لقد توجه بالخطاب في بداية القصيدة إلى والده وكأنه يخاطب عامة الناس أو أفراد الشعب.. حيث يشير إلى أنه وبعد جهوده التي يفخر بها، صار هناك أمن ودولة لها هيبتها، وأنه صار بإمكان المواطن والحاكم أن ينام آمناً من دواهي ومخاطر المحذورات وماهو مخيف، وأنه ـ أي أحمد ـ قد حقق من الأمن وهيبة الدولة ما يجعل الحمامة تلعب مع العُقاب والصقر، فلا يعتدى عليها، ـ إشارة إلى تساوي الضعيف والقوي ـ وما يجعل الشاة ترعى مع الذئاب، وأن ينام الإنسان منشرحاً مع الأسود التي أصبحت كالسنانير، أي القطط الأليفة، إشارة إلى قمع وإزاحة أصحاب النفوذ والخارجين ومن يستقوي على الدولة, حيث يستهل قصيدته بالقول: 
«عش آمناً من دواهي كل محذور» ثم ينتقل إلى القول: ونم مع الأُسْد في الغابات منشرحاً 
                   فإنها اليوم أشباه السنانير 
وخلّ شاتك ترعى والذئاب وقل 
           للورق في الجو مع أعقابها طيري 
واستنزل اليوم بالإحضار ما عجزت 
            عنه المدافع قِدماً والطوبير 
ومن هذا الخطاب المبطن بالمنّ، أو المذكر لوالده بما بذله في إرساء دعائم الدولة، ينتقل إلى معارضته القوية لمن حول والده من ساسة وفقهاء يزايدون بالدين وأنواع التظاهر بما في ذلك نظافة الشماشير «أي الملابس» وطهارتها، مشبهاً إياهم بالخنازير التي يسأل الله أن يقيه شرها، وأن ما تظاهرهم بالدين ومزايدتهم به إلا من أجل مصلحة،لو وجدوها في استبدال دينهم بالنصرانية أو اليهودية لفعلوا «ويرمز إلى ذلك بالبرانيط النصرانية والزنانير اليهودية»، حيث يقول: 
قل للإمام أعز الله دولته   لايخدعنّك أصحاب الشماشير 
وأن يقيه تعالى شر طائفة  بالقطر أشبه شيء بالخنازير 
وبعد أن يشير إلى أنه لولا خوفهم منه وحرصهم على مصالحهم لبدلوا دينهم يقول: 
رأيت جمعاً غفيراً من أكا برهم 
                 «مبرنطين» ومنهم بالزنانير 
لم يكتفِ أحمد بنقد من حول والده من الناحية الدينية والمزايدة باسم الدين، بل تطرق إلى اتهامهم بالخيانة والعمالة والتفريط بالوطن وسيادته، مشيراً إلى المعارك التي دارت مع المملكة السعودية في «حرض» وفي «عسير» ومداهنتهم للبريطانيين المحتلين لجنوب الوطن أو ما كان يسمى بـ«النواحي التسع» أي الوحدات الإدارية التسع حيث يقول: 
هم الذين حملونا الضيم في «حرض» وفي «عسير» وجابوا كل محظور 
وداهنوا في النواحي التسع فانسلخت  عن أمها وأعادوا المكس والميري 
«والمكس والميري» هي ما كان يفرضها الأتراك على اليمنيين من ضرائب ورسوم جائرة. 
ثم يقول: 
فطهر الأرض منهم إنهم نجس   نخشى على الدين منهم بعض تغيير 
هنا أتذكر أن الإمام أحمد المعارض من داخل النظام بقدر ما كانت له مواقفه العدائية من بعض حاشية والده، بقدر ماكانت له مواقفه الإيجابية ممن يختلفون مع تلك الحاشية، فقد سمعت من والدي رحمه الله, أن جدي لأمي زيد بن علي الديلمي الذي شغل موقع رئيس الاستئناف في بداية حكم الإمام يحيى، بعد إقالة الإمام له نتيجة اختلافاته معه ومع بعض حاشيته، قد بعث إليه «ولي العهد» أحمد من تعز برسالة تحمل تأييده لموقفه، واعتمد له راتباً شهرياً يساوي ما كان يتقاضاه في رئاسة الاستئناف، وأنه ظل يستلم هذا الراتب من المرحوم علي زبارة في صنعاء حتى توفاه الله. 
نكتفي بهذه اللمحة إلى أن المعارضة من داخل النظام كالمعارضة من خارجه قد تكون لها دوافعها الخاصة والتنافسية في حالات كثيرة، كما هو اليوم مشاهد، وهو ما نتركه للباحثين للغوص فيه والإفادة.




في الإثنين 08 ديسمبر-كانون الأول 2014 08:41:43 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=2162