|
لم تكن مغادرة «مريوم» للزمان والمكان الأرضيين حقيقة مطلقة، فقبرها الموشَّى ببياض النوارس ظلّ يسعد بالخضرة والمياه والاحتضان الحميم لطيور البحار الناصعة، حتى جاء يوم من أزمنة الحقائق الأزلية لتنبيه الجاثية النائمة في لجّة الظلام لتخرج من منامها البرزخي كما لو أنها واحدة من أهل الكهف..!!.
في ذلك الخروج الصاعق شُوهدت واقفة بطولها الراسخ وهيئتها الناتئة كشجرة انبثقت من أعماق الغيب، يومها رأى العابرون المخطوفون بسر الحنين ذلك المعنى الكبير لكائنة خرافية تنبثق من أحشاء المكان كفراشة خارجة لتوّها من شرنقة الموت الاختياري، ثم تبدأ في التحليق الرشيق صوب زمن رفيق، فتنثال عليها العطور، وتنسكب في أعطافها البخور، فتسافر بقوّة دفع لا مردّ لها، فتظهر معجزة المكان المنتقل بقوة الطاقة والزمان المنفلت من إكراهات الساعة.
هكذا تحرّكت تلّة القبر بمريوم الجديدة، وبدأ التحوّل المدهش في ذاتها الفيزيائية؛ ابتداءً من أناملها التي تغيَّرت لتكتسي جمال الأنثى المتروْحنة بالنقش والرقش والخضاب والحناء، فتبدو كما لم تكن من ذي قبل، وباستمرار معادلة التحوّل البيولوجي ظهرت مريوم بجمالها الفاتن ونعومتها الخلاسية وأبعادها الهيلينية وتدويراتها البابلية وعيونها التهامية وأنفاسها الحجازية وقامتها السواحلية.
أسمالها الخماسية المُعفَّرة بتراب القبر وملوحة الهواء تناغمت مع طاقة التحوُّل المنفلتة من عقال المألوف، وكان المكان المنتقل شاهداً على مجد القطع الخمس اللائي تناوبن الاحتضان لجسد مريوم الذي كان يوم أن تمنْطقت حزام عفّتها الخاص، فكانت المعانقة الدؤوبة لثيابها الخاصة تفسيراً ناجزاً لتلك التدويرات الخماسية للأقمشة البالية ودائرة الرؤية الواحدة، من خلال العين الوحيدة للكاميرا البشرية التي تميّزت بها المجذوبة الغائبة في عوالم الغيوب.
ربوة المقبرة البيضاء ترنّحت، فتماوجت، فاعتلت، فتهادت كعود خيزران، لتحلّق بعيداً، فيما بدت مريوم المنبعثة من مرقدها العابر كما لو أنها نورس كبير يحلّق بأجنحة بيضاء لسفينة شراعية ذاهبة صوب مكان جديد.
كان مشهداً توراتياً ذلك الذي شاهده الخلق مُنبهرين، فقد مرّت تلّة مريوم المسافرة من فوق رؤوسهم؛ سابحة صوب المدى الآخر البعيد، هنالك حيث انبثقت دبي الجديدة بأبراجها الزاهية ومروجها الملونة وشوارعها الناعمة وأنوارها الشفقية وساحاتها الياقوتية.
تماهت الكُتلة المكانية القادمة من الماضي مع جديد المكان النائر، فولدت مريوم الثانية ذات الضفائر الطويلة والقامة السامقة والعيون الرائية كما زرقاء اليمامة.
Omaraziz105@gmail.com
في الثلاثاء 20 يناير-كانون الثاني 2015 09:06:16 ص