العظماء في الوجدان ر
عميد ركن/علي حسن الشاطر
عميد ركن/علي حسن الشاطر
رحيل العظماء والقادة لا شك أنه يمثّل فاجعة كبيرة وصدمة موجعة؛ ليس على مستوى أسرهم وشعوبهم؛ بل على مستوى الأمّة والعالم وخاصة إذا كانوا أصحاب سجل ناصع في العمل الوطني والقومي والإسلامي المجسّد لتطلُّعات وآمال الأمّة, المحافظ على سلامة كيانها ووحدتها, الحريص على خدمة قضاياها, والدفاع عن حقوقها وكرامتها وعزّتها, المتفاني لإعلاء مكانتها ودورها بين الأمم. 
كما أن الراحلين من القادة والزعماء والساسة والعلماء كثيرون, لكن يظل في الذاكرة أولئك الرموز الذين تأبى ذكراهم مغادرتنا مهما تقادم الزمن وتقلّبت الأحوال والظروف, فهم دائماً أحياء في القلوب والمشاعر والذاكرة الجمعية للشعوب نتيجة لما قدّموه من أعمال جليلة, وما سجّلوه من مواقف عظيمة تجذّرت في حياة ووجدان شعوبهم وأمّتهم, كونها نجحت بنتائجها في إحداث تغيير مسار الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وصنعت تاريخاً جديداً زاخراً بالتطوّر والرقي والازدهار. 
ورحيل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود ـ رحمه الله وطيّب ثراه في الجنة ـ لم يكن فاجعة للشعب السعودي الشقيق فحسب؛ وإنما كان في نفس الدرجة والإحساس فاجعة لليمنيين الذين يكنّون له كقائد عربي وإسلامي شهم كل التقدير والاعتزاز والامتنان لمواقفه الأخوية الصادقة تجاه أبنائه وإخوانه اليمنيين سواء في داخل اليمن أم في وطنهم الثاني السعودية وما يحظون به من رعاية كريمة, كذلك فإن هذا الرحيل لقائد عروبي محنّك وشجاع في هذه الظروف العصيبة والتطوّرات المأساوية والمخاطر الجمّة التي تحيط بالمنطقة والوطن العربي والمسلمين الذين تتقاذفهم الأمواج العاتية والهائجة, وتتسارع بهم الأحداث نحو المزيد من الصعوبات والتعقيدات والمكاره والخطوب - هذا الرحيل - يمثّل خسارة فادحة بكل المقاييس لشعوب دول المنطقة والعالم العربي والإسلامي التي كانت ومازالت بحاجة ماسّة إلى حكمة هذا القائد الراحل وحنكته ومواقفه العروبية والإسلامية الصادقة. 
نعم.. لقد فُجعت الأمة العربية والإسلامية برحيل أحد قادتها الشجعان ورموزها الشامخة الذين تركوا بصمات واضحة وكبيرة في مسار التطوّر والنهوض في واقع الأمة, وجسّدوا بمواقفهم الوطنية والقومية والإسلامية صدق انتمائهم وقوّة إصرارهم على نُصرة الحق. 
الخسارة الكبرى لفقدان حكيم العرب ورمز الشهامة والنخوة الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مثل هذا الوقت تكمن فيما كان يمتلكه الرجل من حنكة سياسية وقدرة قيادية في شأن الداخل السعودي, ثم المحيط الإقليمي والفضاء العربي والإسلامي والدولي, تلك القدرة التي لازمته كصفة قيادية منذ بداية حياته العملية في عدد من المؤسّسات والهيئات والمجالس المتخصّصة, وفي تولّيه مهام إنشاء وتطوير وقيادة الحرس الوطني وأثناء تحمُّله مسؤولية ولاية العهد مدّة 23 عاماً والتي توّجها بقيادته للمملكة طيلة عشرة أعوام, كان له خلالها بصماته الكبيرة في مسيرة تحديث المملكة وتحقيق النهوض الشامل, وترسيخ دعائم الأمن والاستقرار في أرض الحرمين, مما جعل هذا البلد المبارك أنموذجاً متفرّداً في المنطقة والعالم؛ لأن الملك عبدالله ـ رحمه الله ـ كان أحد مهندسي التحوّل الهائل في مسيرة النهوض والتطوّر التي شهدتها المملكة لتصبح دولة معاصرة, والوصول بها إلى مصاف الدول المتقدّمة, وصاحبة الدور الفاعل في مختلف التطوّرات والأحداث العربية والدولية, وعمل ـ رحمه الله ـ على تكريس قيم التعاضد والتعاون والتفاهم والتسامح بدعوته إلى الحوار بين الأديان والحضارات كسبيل للتعايش بين كل أبناء البشرية وتحقيق السلام للجميع. 
لقد شهدت العلاقات اليمنية ـ السعودية في عهده تطوّرات هائلة ونقلات نوعية في تواصل حميمي لما كانت عليه وخاصة بعد توقيع معاهدة جدّة لترسيم الحدود الدولية بين البلدين الشقيقين في عام 2000م, وإنهاء أعقد وأصعب معضلة ظلّت عالقة عقوداً من الزمن, وهي المعاهدة التي أعادت إلى جناحي الجزيرة العربية قدرة التحليق من جديد صوب آفاق التقدُّم والتطوُّر الرحبة, وحوّلت الحدود من أسباب للتقاطع إلى أساس للتلاقي والتواصل الحميمي, وإلى عامل مهم من عوامل التكامل والتعاون وحسن الجوار, وجسرٍ قوي للأخوّة والمحبّة والتعاون والشراكة الحقيقية التي تخدم المصالح المشتركة للشعبين الشقيقين. 
لقد رحل عن الحياة الفانية قائد من أبرز قادة الأمّة العربية والإسلامية, كرّس حياته وجهده لخدمة قضايا الأمّة العربية والإسلامية, وعمل من أجل وحدة الصف والتضامن بين أبنائها, وتعزيز قدراتهم على مواجهة التحدّيات, وكان ـ رحمه الله ـ عنواناً للخير والعطاء, صادقاً في مواقفه وقناعاته, لا يتردّد عن قول الحق, ولا يتهاون في نصرة المظلوم, أو في مساعدة الفقراء والمحتاجين, وكان مثالاً للقائد العربي الغيور, والوحدوي الشجاع المؤمن بالوحدة سبيلاً لتحقيق العزّة والنهضة والتقدّم للأمة, جنّب وطنه ويلات الصراعات والحروب التي تعانيها كثيرٌ من الأوطان العربية والإسلامية, وحرص على تخليص بلده من آفة الإرهاب من خلال خوض حرب لا هوادة فيها على عناصر تنظيم «القاعدة» وتجفيف منابع الإرهاب أياً كانت، من منطلق إيمانه وقناعته بأن الاعتدال والوسطية هما السمة البارزة التي يتميّز بهما ديننا الإسلامي الحنيف الذي ينبذ التطرُّف والغلو والعنف بكل أشكاله وأنواعه، وسعى ـ رحمه الله ـ بالتوازن مع ذلك التوجه للاستجابة إلى دعوات الانفتاح السياسي من خلال عملية إصلاحات سياسية واسعة؛ توازن بين تقاليد بلده المسلم المحافظ ومتطلّبات التحديث التي بدأت ولأول مرّة بإجراء الانتخابات البلدية عام 2005م, والاهتمام بحقوق الإنسان وحرّية الرأي ومن ثم إتاحة المجال للمرأة السعودية للمشاركة في الحياة السياسية، حيث أصبحت عضواً في مجلس الشورى ومساهمة بفعالية كبيرة في الحياة الاجتماعية وعضواً فاعلاً في مسيرة النهضة السعودية الشاملة في مختلف المجالات. 
صحيح أن رحيل الملك عبدالله بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ جاء في ظروف غاية في التعقيد والخطورة, ولكن عزاء الشعب السعودي والأمّة العربية والإسلامية وكل محبّي الخير والسلام هو أن مسيرته ستستمر في ظل قيادة أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي حمل الراية بجدارة, باعتباره رجل دولة متمرّس ومشاركاً رئيسياً في مسيرة النهضة الكبيرة التي شهدتها المملكة منذ عهد الملك المؤسّس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ رحمه الله. 

 ali_alshater@yahoo.com 


في الثلاثاء 27 يناير-كانون الثاني 2015 07:00:27 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=2364