|
هي امرأة في العقد السادس من عمرها أقابلها كلما مررت من جولة ريماس، تبيع الصحف لتعول بنين وبنات كلهم في الجامعة، تسألني كلما مررت من هناك عن الوضع وعن المستقبل، وهل سيكون المستقبل آمناً بالنسبة لأولادها الذين تقضي جل وقتها في الشمس والريح لكي توفر لهم ما يقيم أودهم ويساعدهم على تحصيل دروسهم.
قلت لها: أنت تبيعين المعلومة كل يوم، فكيف تسألينني؟ قالت: هناك أشياء عصية على الفهم، فقد عايشت الثورة الأولى ثم الثورة الثانية، ثم مابين الثورتين. وكل ما أريده أن تعود الدنيا إلى بساطتها الأولى، فقد تعقدت بشكل كبير ولا يوجد أحد يشرح ما يجري للبسطاء أمثالي.
هذه المرأة واحدة من ملايين اليمنيين الذين عبروا عن أنفسهم بالصمت، فقد كان صمتهم هو الاستجابة الوحيدة لواقع رأوا أنه لم يعد واقعاً بأي معنى، وسيكون الاختبار الحقيقي لهؤلاء هو الانتخابات التي ينتظرونها بفارغ الصبر ليلقنوا أولئك الذين يتحدثون باسمهم درساً لن ينسوه أبداً.
خرج الثوار في الثورة الأولى وقالوا نحن الشعب، ولم يكن عددهم يتجاوز 8 %، الأغلبية الصامتة كانت مشغولة بأشياء أخرى ولعلها في قرارة نفسها كانت تتوقع أنه لن تمضي أيام حتى يتحسر من كان في رأسه عقل أو ألقى السمع وهو شهيد.
مثل هذه المرأة كان أغلب اليمنيين لهم رأي آخر فيما يجري، بينما كان المخيمون في الشوارع يتحدثون عن الشعب وإرادته القاهرة، ولكن هذا الشعب ذاته كان يشاهد مؤسساته تدمر وجيشه يفكك وأمنه يسرق. كان هؤلاء الصامتون يجلسون أمام التلفزيون وبجانب المذياع يتساءلون عن مصيرهم ومستقبل بلادهم وأولادهم، خاصة بعد أن رأوا الثوار وهم يغلقون المدارس والجامعات أدركوا حينها أنهم أمام مشروع تجهيل إجباري.
حينما كان الثوار يقطعون شارع الدائري وهو المنفذ الوحيد بالنسبة لي للوصول إلى الشقة التي أسكنها كانوا يتوعدونني بالمحاكمة أمام محكمة الثورة، وكان الآخرون في الطرف الآخر يتهمونني بالعمالة مع أولئك الذين يقطعون الشارع بخيامهم، لأنهم يستكثرون عليّ العودة إلى شقتي. كما قلت لم يكن ميدان الجامعة بعيداً عن مكان إقامتي، في هذا الميدان الصغير وعلى امتداد شارع الدائري اجتمع الثوار ونصبوا خيامهم في جمع مالبث ان بلغ عشرات الآلاف، وقيل مئات الآلاف بل وقيل الملايين، كان الشباب في المقدمة، وتبعهم حزب الإصلاح ومعه بقية أحزاب اللقاء المشترك، وبعض من منظمات المجتمع المدني وأساتذة الجامعة وبعض الكتّاب والجمعيات المعروفة وغير المعروفة وبعض رجال الأعمال والجنرال علي محسن الذي أصبح حامي الثورة، لكنه لم يستطع حتى حماية نفسه. كان المدهش ذهاب كثير من حزب المؤتمر الشعبي العام من الوزراء والسفراء والقضاة وأغلبهم من الذين تلوثوا بالفساد أو ممن أصدر لهم علي عبدالله صالح قرارات بالمخالفة، وكان كل همهم أن يحموا أنفسهم ويحصلون على شهادة أنهم كانوا في إحدى خيام شارع الدائري. كنت ارتاد هذا الشارع ـ كما قلت ـ بحكم السكن لكنني كنت الوجه الآخر لهؤلاء، كان من يقابلني من الأصدقاء الأدباء والكتاب يتهمني بأنني خائن لدماء الشهداء، لكنهم لم يكونوا يعترفون بأنهم السبب في قتل هؤلاء ومثلهم الأصدقاء من أساتذة الجامعة الذين كانوا يحرضون عليّ بين الحين والآخر. يتمنون زوالي بل ويتشفون بي في كل اعتداء كنت أتعرض له. كانوا يقولون في مجالسهم إن دوري في التلفزيون في إقناع الناس أخطر من دور الحرس الجمهوري. كنت أتحدث عن الشرعية الدستورية وهم يتحدثون عن الشرعية الثورية. كنت أتحدث عن الوحدة للجميع وهم يتحدثون عن حقوق مناطقية، أتحدث عن الدستور وهم يتحدثون عن دستور جديد، أتحدث عن حاجة البلاد للمدارس والجامعات والطرقات والمستشفيات والحدائق وهم يغلقون المدارس والجامعات ويكسرون أرصفة الشوارع لاستخدام الحجارة في قذف الآخرين. كنت أنادي بالحفاظ على النظام وليس السلطة، وهم ينادون بإسقاطه. سقط النظام فكان أول من دفع الثمن هم لأنهم لم يجدوا نظاماً يحميهم من شريكهم الذي ذهب إلى ثورة ثانية. كنت أدرك أن كلمة سلمية ماهي إلا شعار تتوارى خلفه كتلة من الحقد والكراهية وتصفية الحسابات والثأر من الشعب الذي لم يستجب لهم. كنت ممنوعاً من وسائلهم الإعلامية فأصبحت اليوم ضيفاً مرحباً به ويعتد بكلامه في هذه الوسائل. الخلاصة أن الدستور والشرعية الدستورية التي كنا ننادي بها وكانوا يرفضونها هي التي أنقذتهم اليوم وأنقذت البلاد. والمهم في هذا كله أن الأغلبية الصامتة كانت تراقب المشهد التراجيدي وهي لا تعرف إلى أين سيمضي الوطن إلى العلا أم إلى السقوط. كانوا يشاهدون كل شيء ويعرفون كل شيء، لكنهم لم يكونوا يستطيعوا ربط الأحداث ببعضها، فلم يعرفوا لماذا تنفعل الأحزاب إلى هذه الدرجة فيسقط القتلى هنا وهناك.
وبعد هذا كله يحتاج اليمن إلى تعزيز التماسك الوطني وإصلاح نسيجه الاجتماعي المهترئ. علينا أن نسترجع ما حصل في اليمن وخاصة في فترة ما سمي بـ«الجديد».
في السبت 07 فبراير-شباط 2015 05:19:05 ص