تعز.. ومالا نَقبلُ بهِ

 كانت قد استقرت في ذاكرتي، وتماهت مع وجداني، قبل أن يقررها علينا أحد المدرسين بمدرسة الثورة الابتدائية بذمار، ضمن مختارات المحفوظات لتلاميذه.. كنت قد حفظتها كغيرها من غرر الشعر التي كان والدي -رحمه الله- يختارها ويلزمني بحفظ خمسة أبيات منها يومياً، إنها من رائعة الشاعر اليمني الشهيد محمد محمود الزبيري، تقول:

 نحنُ قومٌ من النبي مَبَادِينا .:. ومن حِمْيرٍ دمانا الزكّية

 أرضنا حِمْيَرة العِرْق ليِسَت .:. أرضَ زيِدةً ولا شافعية

 وبنو هاشم عروقٌ كريماةُ .:. لَنَا من جُدودنا اليَعْرُبِيَّةْ

 إنَّهمْ إخوةً لنا، غير أسْيا .:. دٍ، علينا في مِلَّةٍ أو مزية

 وأشهد أني لم أجد المصداقية التلقائية في تجسيد ما شملته هذه الأبيات، من طهارة ونقاء وحب للوطن، إلاّ في تعز، تعز المدينة والمحافظة..

 في تعز المدينة وأنا تلميذ أمام أستاذي المرحوم محمد عبدالله المخلافي بمدرسة الكويت الإعدادية بحي الجحملية، وأنا تلميذ أمام أستاذي عبدالرحمن قحطان بمدرسة الثورة الثانوية بشارع المصلى، وأنا أصلي بجامع العرضي الذي ينادي مؤذنه بحيّ على خير العمل أو أصلي بجامع المظفر أو الأشرفية، حيث ينادي المؤذن بأن الصلاة خير من النوم، أو استمع إلى محاضرة بجامع الكويت في حوض الأشراف.. وكذلك حين أدخل المركز الثقافي العربي (المصري) الذي أغلق بعد حرب 67م، أو المركز الثقافي الروسي أو العراقي أو السوري، أو أنتمي إلى نادي الطليعة أو النادي الأهلي، لم أشعر يوماً أني زيدي أو شافعي، أو أن هناك من يتعامل معي أني أنتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، أو أني من وراء هذا النادي أو ذلك المركز الثقافي..

 لم أشعر إلاّ أني يمني.. يتقاسم مع من حوله محبة الزمالة والصداقة والجوار والهدف المشترك، وحب اليمن والغيرة عليها..

 ليست تعز المدينة وحدها من أحاطتني بهذا الإحساس والشعور، بل تعز المحافظة التي تنقلت بين بعض مديرياتها خلال الإجازات الصيفية بحكم تولي والدي للقضاء فيها من شرعب الرونة -مسقط رأسي وأول أرض مس جسمي ترابها- إلى دمنة خدير إلى تربة ذبحان (الحجرية) حيث كان زملاء دراستي من أبنائها -في تعز- يستضيفونني خلال إجازة الصيف إلى قراهم (في قَدَسْ وبني يوسف وبني شيبة وبني حمّاد وبني غازي ووادي المشاولة، حيث استوطن أحد أبناء عمومتي فيها وتزوج واستقر هناك إلى أن توفاه الله).

 لم أشعر في مديريات وقرى محافظة المحبة والتسامح تعز، إلاّ بما يشعر به من حولي بأني يمني فقط، ولا يحضر حتى في نقاشاتنا ومزحنا شيء اسمه زيدي أو شافعي، أو عدناني أو قحطاني.. وهذا ليس بمستغرب على محافظة فتحت ذراعيها لأكبر الهجرات الداخلية وأكثرها تنوعاً، ليس بعد اختيار الإمام أحمد عاصمتها تعز عاصمة لمملكته، بل قبل ذلك بعشرات ومئات السنين.

 إنها تعز كل اليمن -شمالاً وجنوباً- واسطة العقد أو جوهرته الأثمن والأجمل من وجدت اختصاراً لوصف حياه الناس الاجتماعية فيها في بضع كلمات قالها الزميل المبدع -ومحط إعجابي- الأستاذ فكري قاسم، في مقابلة تلفزيونية -قبل أيام- حيث قال: أنا من تعز، من حي الجحملية الشعبي، أبي من صبر، وأمي من وادي ظهر بصنعاء، وزوجتي من البيضاء، ومثل حالة فكري هناك المئات والمئات في تعز المدينة والمديريات.

 تعز.. لا تكره، لا تتعصب، سمتها الانفتاح والمحبة، وحب الأمن والاستقرار ورفضها وكراهيتها للعنف والفوضى والخروج عن القانون.

 فيها تعلمنا كيف نكون شعراء، وفنانين، كيف نتعلم ونثابر، كيف نحب ونتسامح، وفيها تعلمنا كيف ننبذ العنف ونرفض التعصب، وندين السلوكيات المتخلفة ونقبل بالآخر، هي الزنبقة البيضاء على صدر الجبل العظيم صبر، رمز للسلام والإخاء..

 فمن هذا الذي يتعمد الإساءة إليها، أو الانتقام منها كظاهرة حضارية..؟

 من يزرع شوارعها بفوضى وإرهاب السلاح المنفلت، والمتارس، والأشلاء والدماء، ودراجات الموت..

 ومن ذاك الذي يخيم على منازلها الحالمة بأحزان الفجائع وفقدان العزيز والجميل.. والدفع بها نحو الصراع المذهبي الذي لم تعرفه عبر تاريخها..؟

 قالت بعض المواقع الإخبارية إن تعز باغتيال ابنها بسام الجنيد يوم 19 /10 /2013م خامس أيام عيد الأضحى المبارك قد شهدت أول اغتيال مذهبي، فكان لهذا وقعه الصادم للنفوس والقلوب المحبة لتعز، وكل من قال أمَا يكفي تعز الحالمة ما أصابها ولحق بها وأساء إليها.

 إن كان هناك من يقبل بما تتعرض له تعز من هدم لكل جميل فيها، فإن حضارتنا وثقافتنا كيمنيين أول ما يرفضه ولا يقبل به، كما لا يقبل اليمانيون لتعز التي عهدوها منذ قبل قيام الثورة اليمنية، نبعاً وحاضنة للفكر المستنير، والتسامح والتنوع الفكري، والمدينة التي احتضنت العظماء أمثال عبدالله باذيب، والزبيري والموشكي والشامي، وعبدالمجيد الأصنج، والجرادة، وحسن بن عبدالله السقاف.. وغيرهم، لا يقبل اليمانيون أن تكون ساحة اغتيالات وقتل بسلاح المذهبية وتعصبها البغيض وفتيلها المدمر.

 

شيء من الشعر:

«صنعاء» تخشى قادماً مجهولا

و«تعزُ» تبكي حُلمَها المأمولاَ

عينان بالدمع السخين تقولُ لي:

عَمَتِ البصيرةُ، والبصائرُ حُوْلا

يا دارَ «أروى» والدماءُ براءةٌ

من مُنْكَراتِ الجاحدين جميلا

الجاعلين الخوف قَوتَ طفولةٍ

تبكي وترضعُ مأتماً وعويلا

المُحْرِقِين سكينةً لمدائنٍ

جلبوا إليها جحفلاً وقبيلا

"الجمهورية"


في الإثنين 28 أكتوبر-تشرين الأول 2013 01:36:43 م

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=692