|
هذه الحركة التي تقوم ـ كغيرها من الحركات الأصولية ـ على عدد من الأسس النظرية التي كرسها في أذهان الأتباع بدر الدين الحوثي الذي يعد الأب الروحي للأفكار التي خرج بها نجله حسين بدر الدين الحوثي على الناس يدعو إليها ويدافع عنها ويموت في سبيلها.
يقول بدر الدين الحوثي (الأب) في رسالته (إرشاد الطالب): «الولاية بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعلي (رضي الله عنه).. ولم تصح ولاية المتقدمين عليه: أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يصح إجماع الأمة عليهم. والولاية من بعده لأخيار أهل البيت:
الحسن والحسين وذريتهما الأخيار أهل الكمال منهم. والولاية لمن حكم الله بها له في كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رضي الناس بذلك أم لم يرضوا فالأمر إلى الله وحده، وليس للعباد أن يختاروا، ولا دخل للشورى في الرضا؛ لأنه لا خيار للناس في أمر قد قضاه الله ورسوله».
هكذا يقرر الحوثي أن الولاية «حق إلهي» لعلي وذريته من بعده، حق غير خاضع للنقاش ولا للمساومة ولا شورى فيه لأحد ولا خيار للأمة فيما اختاره الله، فـ«الولاية لمن حكم الله بها له في كتابه وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رضي الناس بذلك أم لم يرضوا فالأمر إلى الله وحده..»
يبني الحوثي نظريته في أحقية علي رضي الله عنه بالإمامة (التي تعني في فكره أحقية الحوثي نفسه) على أساس نسف أحقية الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا علياً إلى الخلافة، وبالتالي نسف أحقية كل من يأتي من بعد الخلفاء الثلاثة من غير ذرية الإمام علي رضي الله عنه في الخلافة، لكي يتسنى له القول بحصر الإمامة في ذرية الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وتقوم نظرية «الحق الإلهي» عند الحوثي على أساس من نظرية أخرى هي نظرية «الاصطفاء الإلهي» التي تعني بكل بساطة أن الله قد اصطفى عرقاً من الأعراق أو سلالة من السلالات لمهام لا تستطيع سلالة غيرها القيام بها، فـ «الحق الإلهي» لم يأتِ عبثاً وإنما انبنى على أساس ديني من «الاصطفاء الإلهي» المقرر في الكتاب والسنة حسب النظرة الحوثية.
الواقع أن فكرة «الاصطفاء الإلهي» هذه لم يبتدعها الحوثي، وإن كان هو من بين المعاصرين من يطرحها بقوة وبدون أية تقية سياسية أو دينية. وفوق ذلك فإن المتتبع للجذور الأولى لهذه الفكرة يجد أن لها علاقة حميمة بالموروث الأسطوري والديني الفارسي والهندي، الذي انتقل إلى أماكن أخرى من العالم القديم حتى وصل إلى أوروبا القديمة ثم أوروبا في العصور الوسطى التي أصَّلت لفكرة أن الملك هو «ظل الله في الأرض».
فقد عاشت في بلاد ما وراء النهرين حضارات عدة اعتمدت على فكرة «الاصطفاء الإلهي» في الحكم والسيطرة على شعوب تلك المنطقة، وكان الأكاسرة في بلاد فارس يغذون في الناس أن الآلهة قد اصطفتهم ليكونوا نوابهم في الأرض، بل إن بعض الملوك في بعض الحضارات القديمة قد تجاوزوا فكرة أن الآلهة اصطفتهم إلى فكرة أخرى هي أنهم ـ أي الملوك ـ هم من سلالة الآلهة كما هو الشأن في بعض فترات الحضارة المصرية القديمة (فرعون موسى مثلا).
نعود للحوثية التي تحاول اليوم إحياء تلك الأفكار القديمة التي تسربت للفكر الشيعي الذي احتك بالمعتقدات القديمة في بلاد ما وراء النهر حينما اضطر قادته في القرون الإسلامية الأولى للهرب إلى تلك البلاد من البطش والتنكيل.
يبرر الحوثي لحصره الإمامة في البطنين (ذرية الحسن والحسين) بقوله: هم أحق بها من غيرهم، ويضيف بأنهم أقوى على القيام بها من غيرهم، ثم يرد الأمر إلى الدين والتقوى بقوله «التقوى عند أهل البيت أقوى منها عند غيرهم». ويؤكد الحوثي على أهمية التفريق بين الإمامة التي هي «حق إلهي» لآل بيت نبيه، اصطفاهم له وخصهم به، والاحتساب الذي هو أمر بمعروف ونهي عن منكر وهذا حق متوفر للأمة عامة. وينفي الحوثي أن تكون هناك أي علاقة بين الديمقراطية والإمامة بقوله: «الديمقراطية والانتخابات طريقة والإمامة طريقة»، في إشارة إلى أن الديمقراطية هي «حكم الشعب» المناقض للإمامة التي هي «حكم الله» وهما طريقتان مختلفتان لا يمكن التوفيق بينهما، أو على حد تعبير الحوثي: «ما نقدر نوفق بينهم ولا إلينا منهم».
ما يهمنا من أقوال الحوثي السابقة هو أنها تشير إلى الأسباب التي علل بها تمسكه بنظرية «الحق الإلهي»، إذ تشير أقواله إلى أنه بنى فكرته عن «الحق الإلهي» على فكرة «الاصطفاء الإلهي» الذي يؤصل الحوثي له من خلال فهمه الخاص لحديث: «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» الذي يفهمه الحوثي على أنه يشمل ذرية محمد صلى الله عليه وسلم من علي وولديه رضيالله عنهم، فإذا كان الله اصطفى محمداً بالرسالة فإنه كذلك اصطفى علياً وذريته بالإمامة.
يؤكد ذلك ما صرح به يحيى الحوثي زعيم الحوثيين في الخارج ونجل الحوثي عندما قال إن أهل السنة يحصرون الإمامة في قريش، والزيدية يحصرونها في البطنين، فلماذا يحكم الرئيس اليمني (علي عبد الله صالح) وهو ليس من البطنين ولا من قريش؟
وهكذا يعلل الحوثيون نظرتهم إلى «الحق الإلهي» بأنه مرتبط بـ«الاصطفاء الإلهي» ومبنيٌّ عليه، فلا يحق لغيرهم منازعتهم في حقهم لأنه حق قائم على أساس ديني من التميز والاصطفاء.
وتكمن خطورة نظرية الاصطفاء هذه في انبنائها على أسس مخالفة لجوهر الإسلام القائم أصلا على العدل والشورى والمساواة، كما تكمن الخطورة في أن هذه النظرية محاولة لإضفاء العباءة الدينية على أمر سياسي دنيوي يخضع للبشر ورؤيتهم لما يرونه مناسباً لتنظيم أمور حياتهم. وتتأتى الخطورة أيضاً من أن هذه النظرية تشكل تهديداً للسلم الأهلي، وإثارة للنعرات السلالية والعرقية في المجتمع اليمني القائم أساساً على تركيبة قبلية بالغة الحساسية، إذ كيف يمكن أن تسلم غالبية اليمنيين بأنها مأمورة دينياً أن «تسمع وتطيع» لفئة يمنية أخرى على اعتبار أن الله اصطفاها على غيرها للإمامة بدلالة نصوص دينية من الكتاب والسنة مجتزأة من سياقاتها، وملوية أعناقها من أجل أن تشكل غطاء دينياً لمطالب سياسية خالصة.
*الشرق الاوسط:
في السبت 21 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 07:20:54 م