من هو الانفصالي؟
كاتب/حسن العديني
كاتب/حسن العديني

زرت عدن مرتين بين نوفمبر 89 ومايو 90. في الرحلة الأولى، والتاريخ يوافق 4 يناير ذهبنا «أمين عام وأعضاء الهيئة الإدارية لنقابة الصحافيين اليمنيين» نلبي دعوة منظمة الصحافيين اليمنيين لمتابعة التفاوض حول توحيد النقابة والمنظمة.

كنا بمبادرة من المنظمة أجرينا في صنعاء جولتين من مباحثات لم تثمر. تعثرنا عند النقطة الأولى وهي المسألة الجوهرية، نتوحد أو لا نتوحد. جاء زملاؤنا من عدن يطلبون وحدة الصحافيين في إطار حملة اكتظت خلالها الطريق من عدن إلى صنعاء بالوفود ذاهبة وغادية وكان الفشل عنوان تلك الرحلات المكوكية ومرده أن القيادات النقابية على مستوى كل شطر كانت تحمل تصورات النظام فيه وتعبر عنها بمنتهى الأمانة ودون أي مبادرات لخيارات تقلص التباعد بين المتفاوضين.

نحن في «الصحافيين» انقسمنا، أهل الشمال، بين أغلبية تمسكت بتعليق وحدة النقابة على توحيد الدولة وأقلية «محمد المقري وأنا» رأت أن قيادتي النقابة والمنظمة معنيتان بما تقدران عليه، وأما الوحدة اليمنية فإن قرارها في يدي النظامين ودور الصحافيين النضال والضغط بالكلمة وهو موضوع يخصهم كأفراد وفق قناعاتهم لكن وحدتهم ستقدم مثالاً بالتنظيمات النقابية الأخرى، وهذه إن توحدت ستحدث دفعة قوية للعمل الوحدوي الشامل.

في جولة التفاوض في عدن كانت القفزة الوحدة الوفرية قد حدثت ببيان 30 نوفمبر، وبدا الاتفاق بيننا ممكناً وإن بقي انجازه مؤجلاً لشهور لن تطول كثيراً. لكن انطباعاتي عن تلك الزيارة تطل من الذاكرة الآن في الأجواء الضاجة والمحمومة.

اخترنا السفر براً ورافقني زميل على سيارتي. أعرف الطريق حتى الراهدة وبعدها فإنني أسلك منعطفات لم أرها من قبل، إنها زيارتي الأولى لعدن. واجتزنا التخوم فكففت عن الحذر والمبالغة في التيقظ. هنا لوحات المرور الإرشادية تقابلك في كل منحنى وكل منحدر، أمامك منعطف، منعطف حاد، جسر منخفض، جسر علوي، أسماء القرى والأودية ومفترقات الطرق، المسافات المتبقية إلى المحلات والمدن، العند 30 كم، لحج 70 كم، عدن 100 كم، وهكذا على الطريق الواصل من الشريجة إلى العاصمة التي كانت. وفي المدينة إرشادات للطرق التي تسلكها إلى الأحياء، وعند تقاطع الشوارع «تمهل» كذلك تجدها في الدول الأوروبية والامريكية ولكن بإلزام بالتوقف stop . كل الإشارات التي تضمها لائحات المرور تصادفها في طريقك، هنا مستشفى أو مدرسة ممنوع استعمال المنبه، وهذا الطريق اتجاه واحد ممنوع دخوله من طرفه هذا، وذاك اتجاه إجباري. وفي الجولات الرئيسية لا تنتصب إشارات الضوء ولا وجود لطوابير السيارات حيث الأولوية لتلك التي تلتف حول الدائرة والحركة تنساب بهدوء.

وإذن فنحن في دولة يحكمها نظام. وغير النظام هناك أمن وهناك عادات تفصح عن قيم. فعلى نواصي الطرق وجوانبها يقف من لا يملكون وسائل المواصلات في انتظار من يحملهم على مركبته إن كان في طريقهم. لا يخفى طالب المشوار الغريب ولا هو يمضي من جانبهم ولا يتوقف.

هذا الأمان وتلك السكينة وراءهما إدارة يقظة. في يوم وصولنا تناولنا غداءنا بمخبازة في التواهي وفيها نسي محمد المقري المسئول المالي في النقابة حقيبة يد جلدية كان قد وضع فيها ما يخصنا من بدل السفر ومصروفات الرحلة. وفي مجلس المنظمة القريب روى واحد منا واقعة ضياع الحقيبة فقيل لنا بأنه لا شيء يضيع هنا وسوف نجدها حيث تركها في المخبازة أو في قسم الشرطة القريب وهناك في القسم سلمتها الشرطة للمقري بكامل محتوياتها. فتنتني عدن مدينة حميمة، طيب ناسها، تعانق الجبال والبحر كأنك في رحلة في الجزر اليونانية، تمضي من البحر معتقداً أنك ذاهب إلى البراري والوديان لكن رائحة البحر تنبعث من جديد ثم مرآه ممتداً إلى الأفق. في زيارتي الثانية لاحظت صور الرئيس حينها علي عبدالله صالح على أبواب عمارات ومحلات تجارية. أدركت المغزى انهم مستبشرون بالوحدة وأنهم لا يعرفون ما يعانيه أبناء الشمال عندما يربطون بينها وبين صاحب الصورة. الآن هؤلاء هم أنفسهم الذين يحرقون علم الجمهورية اليمنية ويرفعون علمهم السابق.

في مايو 1995 قمت بإعداد استطلاع لجريدة السفير البيروتية بمناسبة مرور سنة على الحرب قادني إلى عدن وزنجبار ولودر وسجلت فيه تغيرات كثيرة شاهدتها من فوضى المرور إلى فوضى اللحى ومن تغيير أسماء المدارس والشوارع إلى اغتصاب جمال المدينة. بدأ ردم البحر لتستوي عليه كتل الخرسانة، والجبال تكسر من حوافها كي تقوم عليها البنايات شاهقة مستفزة، والفلات تتسلق عروضها والقمم ولم يعد ذاك الفضاء الذي يصل زرقة البحر بسواد الجبال ويمنح عدن صفاء وسكينة استقر عليها آلاف السنين.

قابلت في لودر الأستاذ علي القفيش القائد السابق في الجيش والقيادي القديم في الجبهة القومية حكى لي عن اجتماع الرئيس به وزملائه خصوم الحزب الاشتراكي القدامى وكيف أعدوا للسيطرة على أبين حين تنشب الحرب، وماذا فعل مع ابن عمه قائد اللواء عشرين كي يسلم مكيراس للقوات القادمة صعوداً من البيضاء لتلتحم بالعمالقة في أبين وتحاصر عدن من الغرب.

وفي عدن جلست مع الأستاذ عبدالقوي رشاد نائب وزير الخارجية الأسبق، عضو لجنة الحوار الوطني الآن. تحدث بمرارة عما يجري من انتهاك للمدينة تاريخاً وثقافةً وموارد، وفي عبارة تلخص الحالة العامة قال «كان بمقدوري فيما مضى أن أنام على الشاطئ لا أخاف إلا الله والحزب الاشتراكي، الآن أخشى على حياتي من أي صعلوك».

في هذه الزيارة كان لافتاً الزحام عند مكتب أراضي الدولة في المعلا رجال قبائل وضباط وموظفون كبار وأعضاء في البرلمان وغيرهم، أكثرهم قدم من المحافظات الشمالية والقليل جنوبيون ساهموا في الحرب أو الدسيسة بقادة وكوادر الاشتراكي وكلهم يحمل ملفات تضم أوراقاً وأوامر بأراضٍ وبيوت وشقق.

أعود إلى بيان 30 نوفمبر وأقول بأنني، مثل كثيرين، لم آخذ محتواه بمحمل الجد، وقسته على اتفاقات سابقة كان هدفها دائماً الهروب من الأزمات إلى المستقبل. ثم بدأت الإشارات إلى أن ما جرى جدياً، وأهم إشارة هنا في الشمال جاءت من جماعة الإخوان المسلمين ومن شيوخ القبائل أظهرهم الشيخ عبدالله الأحمر، فقد أصيبوا بالتطير والفزع وأبدوا إصراراً على رفض الوحدة مع الشيوعيين في الجنوب. وكانت الأخبار تتسرب عن الجهود التي يبذلها علي عبدالله صالح لإقناعهم بأهمية أن تقوم الوحدة الآن وفي هذه اللحظة.

كان النظام في صنعاء، قبل صعود إبراهيم الحمدي ثم بعد اغتياله يراوغ في مسألة الوحدة ويهرب منها، وكان أحد أهم أسباب الانقضاض على الحمدي أنه سعى لإنجاز الوحدة مع نظام الجبهة القومية في عدن. وفي هربات نظام صنعاء كان يحاول أن لا يظهر عارياً مكشوفةً فيه عورات الانفصالية والطائفية بل القبلية والعشائرية، ثم إنه كان يتخلص من مأزق الوحدة عندما تطلب وتلح فيقبل إبرام اتفاقيات بإقامتها أو بالمضي على طريقها، وكانت تلك خطوات تكتيكية تتبعها تراجعات وتسويفات. ولم تكن تلك التكتيكات قادرة على تضليل الشعب الذي كان يعرف تماماً أن الوحدة هي القضية الرئيسية للقوى الوطنية من حركة القوميين العرب والأحزاب التي اندمجت في التنظيم السياسي الموحدة الجبهة القومية «الحزب الاشتراكي فيما بعد» إلى التنظيم الناصري الذي كان مسماه في ظروف العمل السري “الطلائع الوحدوية اليمنية” وكذلك كان الشعب يدرك البون الشاسع بين هذه القوى الوطنية والقوى الأخرى أسيرة الثقافة العشائرية البغيضة والتوجه الطائفي الكريه مع هذا قدمت أحداث يناير 1986 هدية التخلف لسدنة الانفصال فانتقل نظام صنعاء من الدفاع إلى الهجوم. وفي حين كان الاشتراكي يلملم مأساته ويداوي جراحه، علا صوت صنعاء يدعو إلى الوحدة مدركاً أن مشاغل نظام عدن في تجاوز المحنة ستجعله يتأخر، ويوم نزل علي عبدالله صالح عدن عشية 30 نوفمبر 1989 كان يتصور أنه سيعود ببيان يتضمن صيغة من ذلك النوع الذي يمثل مخارج ومهارب أو أنه سيعود بلا شيء وفي الحالتين سوف تتوفر مادة إعلامية لإظهاره بطلاً سعى وحاول وترجى ولكنهم في الجنوب تركوا يده معلقةً في الهواء. لكنه على غير ما توقع وجدهم يتجاوزون مقترحه بتوحيد الدفاع والسياسة الخارجية إلى وحدة كاملة. وكذلك ألقى التاريخ إليه بما لم يكن في حسبانه. لكن المأساة أن التاريخ يضع بركته أحياناً عند من لا يستحقونها، فقد رآها فرصة لتوسيع مملكته، وما قامت مملكته تلك إلا على مبدأ نهب الثروة وامتهان المواطنين. بهذا المبدأ المقيت زين علي عبدالله صالح والقائمون على مطبخه السياسي لشركائه فكرة القبول بالوحدة في تلك اللحظة، فالحزب الاشتراكي لم يبرأ من جراح 86 وحليفه الرئيسي «الاتحاد السوفيتي» تهاوى من عليائه واندكت حصونه ومن ثم فإن الآتي ليس ملكوتاً للشيوعية على سماء اليمن ولا فردوساً للوطنية فوق رباها وإنما هي مصيدة للوطنية اليمنية ولمن تبقى من رموزها يختنقون فيها ويقتلون واحداً بعد الآخر. ولسوف تكون اليمن بعد ذلك أرضاً مباحة لقراصنة النهب وأرباب الفساد وقد كانت. جمع القول إن أولئك الذين استباحوا الجنوب وأهانوا أهله هيأوا المناخ للانفصال والقوى الوطنية اليوم تحاول أن تلملم ما بعثروه وتتدارك الخطر. وقد تكون الدولة الاتحادية طريقاً إلى تأمين الوحدة ولكن بعد مشاق. 


في الثلاثاء 24 ديسمبر-كانون الأول 2013 11:24:50 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=820