ما الذي يجري؟ ما القصة؟ ماذا يُحدث الهدهد عن سبأ هذه الأيام؟
دكتور/محمد جميح
دكتور/محمد جميح

حراك في الجنوب، نزعات جهوية ومناطقية بدأت تطل برأسها، قتل على الهوية، شعارات تدعو إلى مزيد من التأزم، قطع للطريق، حرب ضد الباعة المتجولين، وأصحاب المحلات الصغيرة، صاحب الدكان الذي أحرقه المتظاهرون بورجوازي كبير، الذين قـُتلوا أمام أولادهم في طريقهم لقضاء إجازة العيد في عدن بورجوازيون يجب التخلص منهم، إنهم عملاء الأمن السياسي، والأمن القومي، نزلوا لنهب خيرات (الجنوب العربي) والتجسس على حراكه الوطني ومجلس ثورته السلمية. إنهم جزء من (الاحتلال اليمني للجنوب العربي). كل شمالي محتل، بورجوازي جاسوس عميل لسلطة الاحتلال اليمني. حتى اليمن! ما هي اليمن؟ نحن في الجنوب لسنا يمنيين، نحن جنوبيون ولا ندري ما هي اليمن، وإذا كان هنالك من «يمن» فهو اسم الدولة المحتلة للجنوب، والاسم الرسمي للجنوب سابقا لم يكن: جمهورية «اليمن» الديمقراطية الشعبية.

العقد ينفرط، مصطلحات الستينات والسبعينات تعود مجددا، الإطارات المشتعلة، والدخان المتصاعد يتوازى مع الحرائق الدعائية والشحن المناطقي ضد أبناء البلد الواحد في الصحف والمواقع الإلكترونية. نشر الكراهية والتحريض المباشر وغير المباشر على العنف ينسجم ومعايير الصحافة الحرة والمهنية النزيهة ولا يقول غير ذلك إلا جاهل أو منتمٍ لعهود الأنظمة الشمولية.

الوحدة ـ إذن ـ خطأ استراتيجي ارتكبته قيادة الجنوب السابقة، الوحدة كابوس يجب أن يزول. هكذا بين عشية وضحاها انقلب الحلم إلى كابوس يجب التخلص منه! لم تأتِ الوحدة إلا بالفقر والظلم والتهميش والإقصاء، ليس للوحدة حسنة واحدة ولا حتى طي صفحة ماضي الحروب المريعة، والتخلص من الإرهاب الفكري وتكميم الأفواه وفتح أبواب الحركة سياسيا واقتصاديا. الوحدة سبب تخلفنا، لولاها لكانت عدن اليوم باريس الشرق ولؤلؤة البحر العربي والمحيط الهندي، لولا الوحدة لنافست عدن دبي وبزَّتها في السباق. الوحدة ورم خبيث يجب إزالته، هي علة العلل وسبب كل المشكلات التي حلت بنا.

حتى بعض القيادات المتكئة على تراث ديني أصبحت تركب موجة تمزيق النسيج الاجتماعي وتطعن في الوحدة، في الوقت الذي تتلو علينا ليل نهار قوله تعالي: «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.. »

 

ثم ماذا؟

في صعدة حرب شرسة، ومزيد من المذهبية، عودة مريعة إلى الماضي، استدعاء قميص عثمان ورفع لدماء الحسين على أسنة الرماح، الدين يمتزج بالسياسة، لا بل بالحرب، الدين يتحول من قوة بناء وحب وتسامح، يتحول بفعل خطأ التأويل، إلى وسيلة لكسب المزيد من الرصيد السياسي، والاستقطاب المذهبي في البلاد. هكذا نجحنا في صعدة في بعث الحسين ويزيد، والأمويين وآل البيت، والنواصب والروافض، والقحطانيين والعدنانيين، هكذا التقى علي ومعاوية مجددا في جبال صعدة، وعادت «صفين» من جديد في أذهان الكثير من العائشين على الثارات التاريخية والأحقاد. ما أبشع أن نقتات من الأموات ونعيش على حساب دمائهم وأعراضهم، مريع أن نظل بعد كل هذا التأريخ من الدماء نروي الدماء بالدماء ونصل البكاء بالبكاء. أبشع منه أن نرفع شعارات دينية لأغراض سياسية، نقاتل أميركا وإسرائيل في أراضٍ يمنية، نلعن اليهود والنصارى، وأسلحتهم بأيدينا نسفك بها دماءنا ونزهق بها أرواحنا.

 

ثم ماذا؟

في صنعاء أحزاب سياسية شاخت قبل أن تستوي على سوقها، تماما كما نـُولـَد وقد وَخـَطـَنا الشيب على حد قول البردوني العظيم. أحزاب ليس لها القدرة على التسامي والتعافي والمبادرة، لا علاقة لها بمعاناة الناس، فقدت الكثير من البريق واللمعان، أحزاب بعضها لا يمتد خارج مبنى الصحيفة الناطقة، أحزاب متهمة من السلطة بالعمل ضد الوطن ومكتسباته، ومتهمة من القواعد الشعبية بالخوف من مواجهة السلطة بل والانضواء تحت عباءتها، أحزاب تدعو إلى الديمقراطية المثالية ولا تمارسها، تأخذ على السلطة دكتاتوريتها وهي لا تزال محتفظة بقيادات الصفوف الأولى دون تغيير رغم المؤتمرات العامة التي تعقدها.

 

ثم ماذا؟

في يمن الإيمان والحكمة فساد كثير، الفساد يتغول ملتهما كل محاولات الحد منه، الفقر يستشري، الاقتصاد يترنح، المواطن يتضور، يرحل باحثا عن ملجأ من الحرب أو من الفقر، الوطن أصبح عند الكثير غير مرغوب فيه (وطن لا يحمينا لا يستحقنا)، الولاء الوطني موضة قديمة يتغنى بها المغفلون، الولاء الوطني لا يتناسب مع الولاء للجهة والقبيلة والمذهب، غاب الوطن ـ إذن ـ وحضرت القبيلة في نفوسنا فلنرقص رقصة السيف على أمجاد بكر وتغلب.

 

ثم ماذا؟

انعدام الرؤية للخروج من المآزق المتتالية، غياب هيبة الدولة، غياب سلطة القانون، استفحال التوجه القبلي، الدولة تتحول إلى قبيلة كبيرة، الأحزاب السياسية صورة من حاشد وبكيل ومذحج، القبائل اليوم تشكل الأحزاب السياسية، مجالس قبائل مأرب والجوف، وحاشد وبكيل ويافع والضالع والعوالق والتضامن والوطني وإلى غيرها من مسميات هي أقرب إلى داحس والغبراء منها إلى «حلف الفضول».

 

ثم ماذا؟

القضاء مغيب والأحكام القضائية معطلة، الرشوة والمحسوبية هما القانون السائد، الوساطة هي الركن الشديد الذي يلجأ إليه ذوو المعاملات والحاجات في الدوائر الحكومية المختلفة.

انسداد الأفق السياسي يكاد يفجر شرايين هذا الوطن الملبد بالتعصب والجهل والقات والفقر والفساد والحراك والحوثيين.

وماذا بعد يا هدهد سبأ؟

يقول الله تعالى:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا».

ثم ماذا؟

في هذا اليم المتلاطم أتوجه إليك:

«يا رب علمني أن أحب الناس كما أحب نفسي، وعلمني أن أحاسب نفسي كما أحاسب الناس، وعلمني أن التسامح هو أكبر مراتب القوة، وأن حب الانتقام هو أول مظاهر الضعف. يا رب إذا أسأت إلى الناس فأعطني شجاعة الاعتذار، وإذا أساء لي الناس فأعطني شجاعة العفو».

- نقلا عن جريدة الشرق الأوسط:


في الثلاثاء 15 ديسمبر-كانون الأول 2009 12:37:01 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=85