صفحة في التاريخ تُفتح الآن
كاتب/حسن العديني
كاتب/حسن العديني
رد الصاع صاعين.. شاع هذا التعبير في السياسة والإعلام في الوطن العربي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت بعد أن ورد على لسان جمال عبدالناصر في شباب زعامته وهو يرفض الابتزاز والضغوط الأجنبية على بلاده. 
ولست أقدر على تحديد مقدار الغطرسة التي تصرفت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في شرق الأطلسي حيال مصر بعد ثورة 30 يونيه، لكن عندي ما يشبه اليقين أن الدولة العربية المنهكة بأوزار الحرب الإرهابية قد ردت الصاع بمثله وزادت عليه. 
ربما بدأت الضغوط قبل الثورة لإقناع الجيش بالتدخل لحماية حكم الإخوان أو للوقوف على الحياد وترك الرئيس وجماعته يتصرفون مع الشعب بواسطة الشرطة وبالميليشيات المسلحة على وجه التحديد، كما حدث مع المتظاهرين أمام قصر الاتحادية «العروبة قبل ان يدخل مرسي» خاصةً وأن قيادة الشرطة أعلنت أنها لن تقمع المتظاهرين أو تحمي المقرات الحزبية وأن دورها سيقتصر على حماية المرافق العامة. 
حدثت الثورة على أية حال وضجت العواصم الغربية واكتظت الطرق إلى القاهرة بالوفود واشتعلت خطوط الهاتف وانهارت التهديدات بالسر والعلن، صريحةً صلفة ومضمرةً مهذبة، والموضوع واحد أن يعود المصريون عن الثورة وتفتح أبواب القصور ومراكز السلطة للإخوان المسلمين، احتراماً للشرعية والتزاماً بالديمقراطية مع أنهم أول العارفين بأنها شرعية زائفة وديمقراطية مغدورة. ولقد تجاوزت الضغوط التوعد بالكلام إلى الإيذاء بالأفعال، وتعددت الاجراءات، فالاتحاد الأوروبي يجمد التعاون الاقتصادي مع مصر، وفرنسا توقف بيع المعدات والأجهزة العسكرية إليها، والولايات المتحدة تمتنع عن توريد صفقة من 4 طائرات مقاتلة تم التعاقد عليها في وقت سابق، وتقطع المساعدات العسكرية السنوية (1.3 مليار دولار) وتقرر من طرف واحد إيقاف المناورات المشتركة «النجم الساطع» التي تجري سنوياً مع القوات المصرية. 
ليس هذا كل شيء، إذ إن غير المعلن أهم وأخطر بكثير. ومن الناحية الواقعية يعتبر التعاون العسكري بين مصر وأمريكا في حكم الملغي أو الموقوف إلى أن تلين قناة المصريين وتفتح الطرق للمركب الامريكي يمر فوق رقابهم ويدهس كرامتهم حتى العظم، وحيث وضع الرئيس الأسبق أنور السادات بيض الجيش المصري في السلة الامريكية، فقد تعذر إبرام أي تعاقدات جديدة أو تنفيذ برامج التأهيل في الجانب المتعلق بالدراسة والتدريب لضباط وفنيين مصريين في المعاهد والكليات الامريكية. ومن غير المستبعد أن الإدارة الأمريكية بالغت بالضغوط إلى المدى الذي يحمل إشارات بالعزم على تقديم دعم تقني وعسكري «مباشر وعلني» للإخوان المسلمين لتمكينهم من تكثيف الهجمات الإرهابية وتطوير الأساليب والأدوات المستخدمة. 
يعزز هذا الظن أن وسائل الإعلام وتصريحات المسئولين في الغرب ظلت تنتقد استخدام القوة، بل القوة المفرطة حسب وصفهم، ضد المظاهرات السلمية، وتلك فجاجة لا تضاهيها سوى العاطفة المشبوبة على إسرائيل التي تدافع عن نفسها دائماً من وحشية الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم من العرب البرابرة، مع ذلك فشل الرامي في إصابة الهدف وتقلصت أعداد المتظاهرين إلى عشرات من المشاغبين حاملي السلاح، وانحصرت أفعال الجماعة في عمليات عنف محدودة لا تكرس حالة اضطراب عام يوفر الذرائع بتدخل خارجي من أي نوع. 
نجحت القيادة المصرية في مواجهة جميع أنواع الضغوط بالكفاءة العالية والجدارة المؤكدة، واستطاعت وسط المصاعب ورغم عنف التحديات في الداخل والخارج أن تجتاز بحيوية المرحلة الأولى والمهمة في خارطة الطريق بإعداد الدستور والاستفتاء عليه بمشاركة هائلة من المواطنين ونسبة عالية من التأييد. وبقي المثير للقلق حجب السلاح والخبرة الامريكية عن الجيش، ولزم القرار، وحزم الفريق عبدالفتاح السيسي أمره ويمم نحو الشرق ونزل في موسكو. 
قد أزعم أن المواجهة هذه المرة لم تكن كيلاً بالأقداح، وإنما ضرباً على الأيدي وبالأيدي، وأعني أن أمريكا وحلفاءها تعاملوا مع مصر كتلميذ يستحق التأديب، وبينما هوى أوباما بعصا الخيزران ليضرب بها على كف السيسي، رفع هذا يده وناول رئيس الولايات المتحدة على خده صفعة أدارت رأسه وخلفته في أرض الذهول. 
لا مبالغة في القول، فالشهور والسنوات المقبلة سوف تكشف عن مغزى عميق ونتائج مبهرة للخطوة المصرية نحو روسيا. التاريخ لا يكرر نفسه بحسب كارل ماركس لكن البشر يكررون أخطاءهم، فلا يجد التاريخ غير أن يسخر بهم ويلقيهم على ناصية الندم. عندئذ تعود المشاهد بألوان أخرى وتمضي الحركة بإيقاع مختلف، ذلك أننا أمام صورة مشابهة، لا مطابقة تماماً، لما حدث بين القاهرة وواشنطن قبل ستين سنة. وكان قادة ثورة 23 يوليو يسعون إلى علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة وفي أذهانهم أن ضميرها غير مثقل بازراء الحقبة الاستعمارية، وأنها وقد خرجت بعزلتها من وراء المحيط تمد إلى الشرق يداً نظيفة وتطل عليه بوجه ربما يختلف كثيراً عما ألفوه من الوجوه القادمة من ناحية الغرب، وما لم يومض ببريق الحرية فقد تشع منه مسحة براءة تبعث على الرضا والطمأنينة. وكانت إسرائيل تثابر على استكشاف موقف النظام الجديد في القاهرة منها، وقد حاولت أن تستقصي من خلال المبعوثين الامريكيين الذين يزورون العاصمة المصرية، ولم تتلق أكثر من إجابات غامضة مفادها أن قادة الثورة غير مهتمين بالعروض الامريكية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل، لأن ما يشغلهم هو التنمية الاقتصادية في بلادهم. ومن هذا الموقف كان عرضهم لمشروع السد العالي بطلب المساعدة على إنشائه بقرض من البنك الدولي. لقد أزعج هذا إسرائيل فأرادت أن تختبر ضباط الثورة في محك حقيقي، لذلك أخذت الطائرات الاسرائيلية تشن غارات متتابعة على قطاع غزة، والغرض وضعهم أمام خيار مواجهة عسكرية غير متكافئة أو إكراههم على الإذعان لمفاوضات يقرون من خلالها بحق إسرائيل في الوجود على حدودهم. 
ولم يكن في وسع القاهرة غير أن تأخذ بالخيار الأول مع ما يقتضي من ضرورات تسريح الجيش على حساب متطلبات التنمية. وسعت القاهرة إلى شراء أسلحة أمريكية وأجريت مباحثات متلاحقة عبر السفارة الامريكية في القاهرة والسفارة المصرية في واشنطن وقدم المصريون قائمة بالأسلحة التي يرغبون في شرائها وذهب وفد مصري رفيع المستوى ترأسه السيد علي صبري إلى واشنطن لإبرام الصفقة، لكنه فوجئ هناك أن الامريكيين معترضون على القائمة التي قدمها المصريون، وأنهم يضعون بدلاً عنها قائمة بأسلحة خفيفة من تلك التي تستخدم في مكافحة الشغب. وأيقن جمال عبدالناصر أن الولايات المتحدة غير مستعدة لإمداد مصر بالأسلحة اللازمة لمواجهة التهديدات الإسرائيلية، وراح يفكر في جس نبض السوفييت، لكنه أخذ الخطوة بتمهل وحذر ولم يذهب مباشرة إلى قادة الكرملين بل اتجه إلى براغ ونجح في عقد الصفقة المعروفة بصفقة الأسلحة التشيكية. وقد كانت في الواقع أسلحة سوفيتية نفذ التعاقد عليها عبر تشيكوسلوفاكيا. 
جرى التباحث حول الصفقة بسرية مطلقة، وعندما أُعلن عنها تطيرت واشنطن والعواصم الغربية، غير أن تلك الصفقة في النهاية فتحت مرحلة هامة من التعاون مع الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي تجسدت لها صروح ومآثر عظيمة من السد العالي إلى التصنيع الثقيل وإلى السلاح الذي أرهق إسرائيل في حرب الاستنزاف ومرغ أنفها في اكتوبر. 
كان هذا فتحاً مصرياً عظيماً دشن حقبة كاملة من الكبرياء والعلو والتحدي لقوى الهيمنة. وفي الوقت نفسه وبذات المقدار انفتحت أبواب الشرق الأوسط والقارة الافريقية رحبةً واسعة أمام الاتحاد السوفيتي، وشهد العالم حقبةً زاهية من التعاون الخلاق بين الكتلة الاشتراكية وحركات التحرير الوطني والشعوب المتحررة حديثاً طويت خلالها الحقب الاستعمارية السوداء وارتفعت رايات الحرية وأخذت الشعوب التي غُلبت على أمرها طويلاً تشق طريقاً واسعاً نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي. 
وعندما دارت العجلة في مصر «180 درجة» إلى الخلف مع أنور السادات في أعقاب انتصار اكتوبر جرت معها المنطقة كلها وانسحب الاتحاد السوفيتي إلى حدوده وانتقل من مهاجمة الامبريالية إلى الدفاع عن نفسه ومن تشديد الضربات عليها إلى تلقي طعناتها في عقر داره. 
التاريخ لا يكرر نفسه لكن الأغبياء في واشنطن كرروا حماقة أسلافهم ولم يأبهوا إلى أن روسيا قد أفاقت من صدمة سور برلين المنهار واستعادت جزءاً من المكان الذي كانت تشغله على المسرح الدولي. ولقد التقط المصريون اللحظة ومدوا الجسور إلى موسكو، ولسوف يمدونها –بكل اليقين- إلى بكين ودلهي وإلى مختلف العواصم. ولسوف تعود روسيا واثقة الخُطى إلى الشرق الأوسط وافريقيا. 
مرة ثالثة التاريخ لا يكرر نفسه، إذ لن تكون الحقبة القادمة شبيهة بستينيات وسبعينيات القرن الماضي ولن تحمل شعاراتها ولا مشروعاتها ولا أمانيها، لكنها لن تكون بأي حال مماثلة للعقود الأربعة المنصرمة، عقود الهوان والذل والغطرسة الاستعمارية. لن يعود العالم هو العالم الذي كان. 
أميل إلى الاعتقاد أن تعدد عواصم التأثير على القرار الدولي سوف يتعزز أكثر منذ اليوم. إن صفحة جديدةً في تاريخ العالم تُفتح الآن. 


في الثلاثاء 18 فبراير-شباط 2014 08:45:15 ص

تجد هذا المقال في ردفان برس
http://rdfanpress.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://rdfanpress.com/articles.php?id=984