|
|
|
|
|
|
|
|
|
الحشّاش التركيّ
السبت 24 ديسمبر-كانون الأول 2016 الساعة 09 صباحاً / ردفان برس/سحر مندور |
|
|
|
|
|
هذا الرجل الذي قتل السفير الروسي في تركيا، لم يكن يرتدي جلباباً أو هيئةً «مجلببة». فلمّا رفع إصبعه إلى أعلى، بدا أقرب إلى جون ترافولتا في فيلم «ساترداي نايت فيفر» (1977) منه إلى واحدٍ من فريق «الحشّاشين» في التاريخ الإسلاميّ. شكله يستدعي ترافولتا في لحظة انفجار نجوميته عالميّاً، عندما اخترق بالليل والرقص والشباب والأسئلة سطح العالم. ولكن الرجل، بفعله، يلتقي تماماً مع فعل الفريق السياسيّ العسكريّ الدينيّ الذي أسّسه حسن الصبّاح بخطابٍ «تصحيحيّ» يبتغي الحكم، واستمر وجوده في قلاع بلاد فارس وبلاد الشام ما بين القرنين 11 و13.
فريق الحشّاشين كان يسمّي نفسه «الدعوة الجديدة»، وقد انشقّ بالمذهب الإسماعيليّ عمّا تطبّقه الدولة الفاطميّة، واستعداها، واعتبر نفسه مبشّراً بـ «صوابه». وهو إذ اعتمد الاغتيال وسيلةً لتلبية أغراضه السياسيّة ببلوغ الخلافة، سمّي بين نقّاده وفي التاريخ باسم «الحشّاشين» لأن عناصره، أو «فدائييه» كما سمّاهم الصبّاح، كانوا يقفون في أرضهم أمام البشر إثر تنفيذهم الاغتيال، لا يهربون، وإنما يواجهون الناس ويصدحون بالدعوة حتى يُقتلوا. يمتلكون صفتهم كقتلة، ويشهرون الفخر بها، وقد أرادوا من ذلك إشهار الدعوة وشجاعة ناسها. ومن غرابة الوقوف والتصريح والمواجهة بعد فعل الاغتيال، قيل إنهم يتعاطون الحشيش، أو يتعرّضون للتخدير في قلعة الموت، ويُرسَلون منها للقتل. فيكون القتيل مرمياً جنبهم على الأرض، وغالباً ما يكون ذا شأنٍ عالٍ في السياسة أو العسكر أو الإدارة، بينما يصيحون بالدعوة. ويقال أيضاً أن كلمة assassin (قاتل) اللاتينيّة اشتقّت من اللفظ المحليّ لكلمة «حشاشين»، خلال الحروب الصليبيّة. كما كان لحلب دورٌ محوريّ في تثبيت زعامة الحشاشين ثم سقوطها، علماً أن الحركة تحاربت وتهادنت مع صلاح الدين، وشكّلت جيوباً بحكمٍ ذاتيّ في بلاد الشام أيام المماليك، والتقت مع بقية قوّات المسلمين على محاربة المغول الذين أجهزوا عليها تماماً في نهاية مطافها على هذه الأرض. 8 زعماء حكموا باسم الحشاشين ما بين 1094 و1256. في كتابه «سمرقند»، بنى أمين معلوف حواراً مباشراً وغير مباشرٍ آسراً بين حالة حسن الصبّاح وفريقه الحشّاشين من جهة وبين الشاعر الفارسيّ الآسر عمر الخيّام بخمره والجنس وأسئلة الإيمان ودنيا العلوم من جهةٍ أخرى. وفي ذلك دلالةٌ راهنة.
وقف أمام الكاميرا، خلفه لوحاتٌ معلّقة في معرضٍ فنّي محوره «روسيا بعيون الأتراك»، وجنبه جثّة عدوه السياسيّ الذي يمثّل دولةً ذات سطوةٍ لا موازي لها في الشرق. وقف التركيّ رافعاً إصبعه في حركةٍ توقظ في البال صورتين بلا رابطٍ بينهما إلا وعي الإنسان في هذا الزمان: 1- صورة الحشّاش الذي يفخر بالاغتيال ويستحضر عبارات السلف الصالح ويبشّر بصراطٍ مستقيم دونه العقاب، 2- وصورة ترافولتا بالجسد الأنيق، الرشيق، الراقص، صاحب الصورة الأيقونيّة، المتوجّه مباشرةً إلى كاميرا العصر، وبيده مسدس على طريقة أفلام العملاء السريّين. كأنه ترجمةٌ حرفيّة لذاك النقاش الذي دار خلال عصر النهضة في مطلع القرن الماضي حول استيراد الحداثة، وصون التقاليد، وتوليف زواجٍ غامضٍ بينهما في صياغة الأمّة والدول الباحثة عن نشوئها. كمدينة عريقةٍ وللمستقبل معاً، بدا.
والصبّاح تجاور مع الخيّام وتحاور معه. لا تناقض في مضمون الصورة، فالرجل ليس مجرّد 007 يغتال لأجل الملكة ويختفي نحو مهمةٍ أخرى. هو الحشّاش الذي يعاقب، والخيّام الذي يتجمّل، والسلف الذي يجزم، والصورة التي خرجت عن الصناعة وصارت تتجوّل بين الأيام. هو التلاقي بين زمن الرسول بيقينه، وزمن الأسئلة بعلومها وآدابها، وزمن الحروب الصليبيّة بعسكرتها وخنادقها، وزمننا هذا الذي يرى.
تكدّست المفاهيم والأزمنة والأزمات التي لم تجد حلولها في الكاميرا التي وقف أمامها قاتلٌ وكان يقف أمام العالم... تماماً كما صاح بجريمته حشّاشٌ، وكان يصيح بها لأمّةٍ عبر تاريخها.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|