تجد السعودية والإمارات في الانقلاب على نظام البشير فرصة لإعادة إنتاج النظام بما يتناسب ومصالحهما، لكن محاولتهما «سرقة» الحراك الشعبي وإسكات قادته بقرارات تبدو مكشوفة، قد تجعلهما العدو الأول للشعب، الذي سبق أن رفض المشاركة في حرب اليمن، وبدأ يتذمر من «الوصاية» على المرحلة الانتقالية الطويلة الأمد
تتسم السياسة السعودية والإماراتية في السودان، منذ الانقلاب على الرئيس عمر البشير، بالاندفاع والتهور، كما في معظم الملفات التي تنخرط فيها الدولتان. لعبٌ على المكشوف، وحماسةٌ زائدة لقطف ثمار أربعة أشهر من الاحتجاجات المطالبة بحكم ديموقراطي. منذ اليوم الأول للانقلاب الذي تلا بيانه وزير دفاع البشير السابق، عوض بن عوف، دفع النظامان الخليجيان إلى خوض معركة سياسية. معركة بين قوتين: النظام من جهة، وكل ما يتصل به من مؤسسات عسكرية وسياسية، تسعى الرياض وأبو ظبي إلى إعادة إنتاجها بما يخدم مصالحهما، والمحتجون من جهة ثانية بكل ما يحملونه من مطالب. وما بين القوتين، ثمة من يدير الموقف الشعبي بحذر، من قادة حراك ممثلين بتحالف «قوى الحرية والتغيير»، على رأسهم «تجمع المهنيين السودانيين»، الذي يطالب بحل الحكم العسكري وتسليم السلطة لمجلس مدني، وبضرورة إعادة هيكلة العلاقات الخارجية للبلاد، في ضوء شعارات بدأت تبرز في الشارع مناهضة للوصاية السعودية والإماراتية على المرحلة الانتقالية.
وبمعزل عن أن معركة الرياض وأبو ظبي في السودان تهدف إلى تجيير «بوابة إفريقيا» في اصطفافات إقليمية لمصلحتهما، ولا سيما ضد إيران وقطر وتركيا، وما يتصل بذلك من مواطئ قدم على البحر الأحمر، واستثمارات، ودعم عسكري على غرار المشاركة في حرب اليمن، يبدو تهور «المحمدين»، محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، واضحاً في استبعاد المحتجين من معادلة العلاقات الخارجية للبلاد، واتجاههما إلى احتضان مجلس عسكري يفترض أنه انتقالي، لكنه قرر الاستمرار في المشاركة في حرب اليمن، كما أعلن أخيراً، على رغم رفض قادة الحراك الشعبي ذلك، كما سبق أن عبرت جميع مكوناته من «قوى الحرية والتغيير»، سواء حزب «الأمة» بزعامة الصادق المهدي أو «المؤتمر الشعبي» أو «الشيوعي السوداني»، أو حركة «الإصلاح الآن»، وحتى «الحركة الشعبية لتحرير السودان».
أبعاد معركة «المحمدين»
تحضر أبعاد الصراع القديم الجديد في كل مفصل من مفاصل المشهد السوداني، منذ اندلاع الاحتجاجات حيث الصمت المريب للحليفتين الخليجيتين إزاء أكبر التحديات التي واجهها نظام البشير الحليف، الذي قدم إليهما أكثر من أقرب حلفائهما عبد الفتاح السيسي، وصولاً إلى الانقلاب الأول الذي أعلنه بن عوف. حينها، استمر الصمت السعودي الإماراتي يوماً واحداً فقط، لتعلن الدولتان في اليوم التالي دعمها انقلاباً ثانياً داخل دائرة العسكريين، أفضى إلى مجلس جديد من مقربين، كانتا قد مهدتا له منذ أن تأكد لهما أن نظام البشير متآكل وآيل إلى السقوط، من خلال دفع أقطابه إلى مسايرة الحراك الشعبي، وصولاً إلى رفضهم الانضواء في مجلس بن عوف، لإحداث انشقاقات في صفوف الجيش والقوى المسلحة الموازية. وتم في ذلك استغلال تقاطع المصالح مع هؤلاء، أمثال رئيس المجلس العسكري عبد الفتاح البرهان، الذي أشرف على إرسال آلاف الجنود السودانيين إلى اليمن، ونائبه محمد حمدان دلقو الملقب بـ«حميدتي» قائد «قوات الدعم السريع» القوة الأكبر من القوات البرية المشاركة في الحرب، وأيضاً الرجل الأكثر قرباً إلى أبو ظبي وواشنطن، المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني صلاح قوش. كل هذا وضع بن عوف أمام مشهد حذّر فيه مراقبون من انفلات الأمور في ظلّ انفصام بدا واضحاً خلال الاعتصام أمام مقرات الجيش، بين المؤسسة العسكرية وقوات الأمن، ما قد يقود إلى اندلاع مواجهات بين أكبر ثلاث قوى عسكرية في البلاد: الجيش والتشكيلات العسكرية الموازية كـ«الدعم السريع»، وقوات الأمن التي يديرها قوش.
إجهاض «المحمدين» مجلس بن عوف لم يكن طمعاً في الحفاظ على مصالحهما المرتبطة بوجود قوات سودانية في اليمن، بل رفضاً منهما لتولي بن عوف قيادة البلاد بعد البشير، علماً أن الرجل كان من أشد المتحمسين لإرسال قوات لـ«الدفاع عن الحرمين». لكن بن عوف، ونائبه كمال عبد المعروف الماحي، ذوا جذور إسلامية، وتخشى الدولتان أن ينحوَ منحى البشير في علاقاته الخارجية التي أبقته على مسافة من محور مصر والسعودية والإمارات، أو محور تركيا وقطر. كذلك، رُفض بن عوف شعبياً باعتباره امتداداً للبشير، فيما تحرص الرياض وأبو ظبي على مغازلة الانقلابيين للحراك الشعبي وقادته، للحفاظ على السلطة الجديدة.
الاخباراللبنانية