مَن يَقرَأ المُقتَطفات التي نُشِرَت حتّى الآن من كِتابِ بوب وودورد، الصِّحافيّ الأمريكيّ الاستقصائيّ، والمَقال الذي نشرته اليوم صحيفة “النيويورك تايمز” وقالت أنّ كاتِبَه مَسؤولٌ كَبيرٌ في إدارة الرئيس ترامب، يَصِل إلى قَناعةٍ راسِخَةٍ بأنّ هُناك أزمةً طاحِنةً في هَذهِ الإدارة، وأنّ أيّامَ رئيسِهَا ترامب باتَت مَعدودةً.
مَن يَعرِف صحيفة “نيويورك تايمز” ونَظيراتِها الأمريكيّة، ومُعظَم الصُّحُف الأُوروبيّة الجادّة، يُدرِك جيّدًا أنّ رئيس تحريرها يَعرِف جيّدًا هذا الكاتِب “المَجهول” للمقال، ولا يُمكِن أن يُقدِم على نَشرِه، ويُخفِي هويّته في الوَقتِ نفسه، إلا لإدراكِه أنّ هذا النَّشر يَخدِم المَصلَحة الأمريكيّة، ويُقصِّر من أخطارِ هذا الرئيس الذي وصفه المَقال بأنه “ذو نزعة قياديّة تافِهة، مُتهوِّرة، غير فعّالة، ويُسِيء لصحّة الجمهوريّة، وأنّه يَعْمل مع آخرين بقَدَر المُستَطاع للحِفاظ على المُؤسَّسات الديمقراطيّة في مُواجَهة الدَّوافِع المُؤسِفَةِ جدًّا للسيد ترامب حتى يُغادِر منصبه”.
صحيفة “نيويورك تايمز” كانت مِن ضِمن حواليّ 200 مُؤسَّسةٍ إعلاميّةٍ كُبرَى شكَّلت تَحالُفًا ضِد الرئيس ترامب، وتَعهَّد كَشف أخطار إدارته على مُؤسَّسة الحُكم ومَصالِح الشَّعب الأمريكيّ، والعَمل على إسقاطِه بأسرعِ وَقتٍ مُمكنٍ تَقليصًا للخَسائِر.
مِن المُفارَقة أنّ هذا المقال الذي هَزَّ أمريكا وليسَ البيت الأبيض وحده، تزامَن مع نشر مُقتَطفات لكِتاب وودورد الذي حَمل عُنوان “الخَوف.. ترامب في البيت الأبيض” أثارَت حالةً من الصَّدمة لما تضمَّنتهُ من وَقائِع كانت حصيلة 200 ساعة من التَّسجيلات مع كِبار الشخصيّات الحاليّة والسَّابِقة في البيت الأبيض من بَينِها جيمس ماتيس، وزير الدفاع، وجون كيلي، رئيس هيئة مُوظِّفي البيت الأبيض، وجون برينان، المُستشار الاستراتيجيّ المَعزول.
***
أبرز ما في كِتاب وودورد (448 صفحة) قوله نَقلاً عن فريق الأمن القوميّ لترامب شُعورَهم بالصَّدمة بعد أن اكتشفوا أنّ الرَّجُل جاهِل كُلِّيًّا بالشُّؤون العالميّة، ويَزدَري آراء كُل الخُبراء، وقادَة الأجهزة الأمنيّة، مِثل جدله مع وزير الدِّفاع حول وجود 30 ألف جندي أمريكي في كوريا الجنوبيّة، وعمليّات الرَّصد الخاصّة المُكلَّفة لاحتمال إطلاق كوريا الشماليّة صواريخ في أقَل من ثَوانٍ مَعدودة (سبع ثوان)، فكان رد ماتيس عليه أنّ كُل هَذهِ الجُهود من أجل منع إقامَة حرب عالميّة ثالِثة، الأمر الذي لم يَستَطع فهمه حتّى هَذهِ اللَّحظة.
ترامب حسب الكِتاب، طَلب من وزير دِفاعه القِيام بضَربةٍ استباقيّةٍ لكوريا الشماليّة، واغتيال الرئيس بشار الأسد والمجموعة المُحيطةِ بِه عام 2017، وحسم الحَرب بسُرعة في أفغانستان، أطوَل الحُروب الأمريكيّة، الأمر الذي أثار قلق ماتيس، وزير الدفاع، حتى أنّه أبلَغَ زُملائَه بأنّ الرئيس ترامب يَفهَم الأُمور وكأنّه طالِب في الصَّفِ الخامِس أو السادس، ويَتصرَّف على هذا الأساس.
وودورد نقل عن جون كيلي، كبير مُوظَّفي البيت الأبيض، قوله أنّ الرئيس “أحمق” ومِن غَيرِ المُجدِي إقناعه بأيِّ شَيء، وخَرج عن السَّيطرة، وأصبَحنا في “مدينة الجُنون”، وأنّ هَذهِ الوظيفة في البيت الأبيض هِي أسوَأ وظيفة حَظِيَت بِها على الإطلاق، وأضاف، والحديث لكيلي “تخيّل أن تكون شاهِدًا على شِجارٍ بين إيفانكا ترامب وستيف بانون، كبير المُستشارين الاستراتيجيين السابق، بسبب غَطرَسَة الأُولى، وقَولِه لها: أنت مُوظَّفة مِثل الآخرين ولست رئيسَتهم، فتَرُد بصِلافةٍ “لا أنا لست مُوظَّفة.. أنا الابنة الأُولى”.
سِلسِلَة التَّبرُّؤ مِن المَقال المَجهول من قِبَل مايك بومبيو، وزير الخارجيّة، وجيمس ماتيس، وزير الدفاع، ومايك بنس، نائب الرئيس، ودبن كوتس، رئيس المُخابرات، تُوحِي بأنّ هُناك حالةً مِن الفَوضى في البيت الأبيض، وأنّ الكَيل قد طَفَح، والحَرب للإطاحة بترامب بَدأت تَشتعِل أوزارها، ومُعظَم هؤلاء طَرفٌ فيها، والأيّام المُقبِلة حاسِمَة.
بوب وودورد كان أحد أبطال كشف فضيحة “ووترغيت” الشهيرة التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون، ولا نَستبعِد أن يكون كِتابَهُ الأحدَث، وما ورد فيه من فَضائِح للرئيس ترامب وإدارته وتهوُّره، هو المُقدِّمة الأهَم لعَزلِه، وهزيمة الحِزب الجمهوريّ في الانتخابات النِّصفيّة المُقبِلة (بعد شَهرين)، ممّا يُسَهِّل، ويُعَجِّل بإجراءاتِ هذا العَزل.
***
لا نَعرِف كيف سَيكون شُعور بَعض المَسؤولينِ العَرب في مِنطَقة الخليج، والسعوديٍة تحديدًا، الذين راهَنوا على الرئيس ترامب ووضعوا كل بيضهم في سلَّتِه وإدارته، وقَدَّموا له 500 مِليار دولار، لعِبَت دورًا كبيرًا في نُمو الاقتصاد الأمريكيّ بنِسبَة 4.2 بالمِئة، وتخفيض البِطالة إلى النِّصف للمَرَّةِ الأُولى مُنذ 18 عامًا، وهِي مُجتَمِعة الإنجاز الأهم للرئيس ترامب الذي يتباهى بِه أمام ناخِبيه.
ترامب الآن مِثل النِّمر الجَريح يَخبِط في كُل الاتِّجاهات دُونَ وَعيٍ، وهُنا تَكمُن خُطورته، ولذلِك لا نَستبعِد أن يُحاوِل إشعالِ حَربٍ إقليميّةٍ أو عالميّة، انطلاقًا مِن مِنطَقة الشرق الأوسط، وإيران وسورية تَحديدًا.
إنّه فِعلاً رئيسٌ أحمَق، مُتهوِّر، وما نَوعيّة تَحالفاتِه، وحُروبِه الاقتصاديّة، وتَغريداتِه الابتزازيّة، إلا أمثِلةً في هذا المِضمار، ولعَلُّه هديّة من العَليّ القَدير لفَضحِ الوَجه الأمريكيّ البَشِع، ودق مِسمار مُهِم في نَعشِ الغَطرَسَةِ الأمريكيّة.