أتاح لي ما كتبت عن اليمن فرصة لإدراك حدود فهم الديموقراطية وممارستها في الوطن العربي، فقد تلقيت رسائل كثيرة، بعضها يؤيد كلامي وهي خارج موضوعي اليوم، وأكثرها من معارضين، من جنوب اليمن تحديداً لا الحوثيين، جمعت بين المهذب كصاحبه والبذيء، فكل إناء يفيض بما فيه.
زيارتي والزميل غسان شربل اليمن كانت لغرض محدد هو إجراء مقابلة صحافية مع الرئيس علي عبدالله صالح. وقد أجرى المقابلة رئيس تحرير «الحياة» ونُشرت في صدر الصفحة الأولى، وشاركتُ في بعض الأسئلة، وأبديت ملاحظات، وسجلت مختارات في هذه الزاوية.
ما كتبت انقسم بين رأي ومعلومة، فالصحافة كلها تختصر في أفكار وأخبار، ويفترض أن يكون الرأي مقدساً فهو ذاتي وصاحبه حرّ في إبدائه طالما أنه ضمن نطاق القانون والتهذيب، والقارئ حرٌّ في رفضه، كما يفترض أن تكون المعلومة صحيحة.
معلوماتي دائماً صحيحة، فأنا حذر وتدريبي غربي، لذلك لم أسحب معلومة في حياتي أو أعتذر عنها، ولم أخسر قضية قدح وذم واحدة في لندن. وهكذا فقد سألت الرئيس عن مرتبة اليمن في مؤشر الفساد العالمي حيث هي قرب نهاية القائمة، وعن تقصير استخباراتي محتمل في معرفة أعداد الحوثيين وتسليحهم، ونقلت ما سمعت بدقة. كذلك قلت إن اليمن إذا انتهت مشاكله الداخلية يمكن أن يجعل من السياحة مصدر دخله الأساسي، فهو بلد سياحي نادر بعمارته وجغرافيته وشواطئه، وهذا صحيح جداً.
في صنعاء لم أر حاجزاً أمنياً واحداً في شوارع المدينة خلال 48 ساعة من إقامتي فيها، ورأيت نساء منقبات، وشرطيات محجبات، وكتبت عنهن. ووجدت مجمع العُرْضي جميلاً جداً وتجديده كان أميناً للأصل بالمقارنة مع الصور القديمة، وكثير منها يعود الى العهد العثماني، وكل هذا صحيح.
لم يزد رأيي، بعد المعلومات السابقة، على القول إن شعب اليمن طيب ووحدوي وإن الفقر مقيم، لذلك لم يتلوث اليمنيون بفيروس الثراء، وشكرت لهم غيرتهم على فلسطين ولبنان وقضايا العرب كلها.
وانتهيت بأن قلت حرفياً إنني سمعت من جانب واحد هو الجانب الحكومي، فالزيارة القصيرة كلها كانت لإجراء مقابلة مع الرئيس، لذلك لا أبدي حكماً لأن العدل يقتضي أن أسمع الجانب الآخر.
بين هذا وذاك جمعت عن اليمن بضع مئة صفحة من المعلومات راوحت بين دراسات دور البحث وأخبار منشورة في الصحف العالمية (وهي محفوظة عندي وأستطيع أن أقدم نسخة للراغب إذا زارني في مكتبي) وقرأت ما جمعت في الطائرة، وفي المكتب، وقبل النوم.
كان هناك من اعترض حتى على ركوب طائرة خاصة. مع أن الرحلة هذه كانت بين الرياض وصنعاء فقط، لأننا ارتبطنا بموعد محدد مع الرئيس سبقته ثلاثة أيام لي في الرياض لحضور مهرجان الجنادرية حيث شاركت في جلسات نقاش وفكر استمر بعضها أكثر من أربع ساعات، وعدت مباشرة الى الرياض، وإلى يومين آخرين مع أنشطة الجنادرية، أي ما مجموعه سبعة أيام يبدأ العمل فيها في الصباح الباكر وينتهي حوالى منتصف الليل، أي ما يكسر الظهر، فليس الأمر نزهة.
بعض القراء انتقل من اليمن ليهاجم الأنظمة العربية كلها ويقول إنها ديكتاتورية وإنني أروّج لها. وردي انني في هذه الزاوية كتبت حرفياً، مرة بعد مئة مرة، وأكتب اليوم أن الدول العربية كلها من دون استثناء غير ديموقراطية، ولا قضاء مستقلاً، ولا حرية كلام أو محاسبة أو شفافية، وحقوق المرأة منقوصة. والفارق بيني وبين القارئ انني أكتب علناً وأقبل أن أتحمل مسؤولية كلامي، أما هو فلا أحد يحاسبه على رسالة. هذا القارئ يهاجم الديكتاتورية ويمارسها، فهو لا يكتفي برفض رأيي، بل حقي أن أبديه، لأنه غير رأيه، ثم يعترض على معلوماتي وهي صحيحة مئة في المئة.
أرجو أن يكون المعارضون الآخرون في اليمن، وفي كل بلد عربي، من نوعية أفضل من الذي يتباكى على الديموقراطية، وهو يريد أن تقتصر ممارستها عليه وحده، أو يشكو الفقر وهمّه من الفساد أن يحصل على نصيب منه.
مرة أخرى، أُعجبت كثيراً بما رأيت من اليمن في زيارتي الأولى، وكانت قصراً على صنعاء وضواحيها، ووجدت شعب اليمن طيباً ووحدوياً. ولعل جلسات الحوار لقيت هوى إضافياً في نفسي لأن كثيراً منها غلب عليه حديث الشعر والأدب العربي عموماً ودراستي أدبية.
أخيراً، هذه السطور ليست عن الرسائل التي أيّدت ما كتبت، وليست عن معارضين حددوا أسباب معارضتهم وما يريدون لجنوب اليمن أو البلد كله، وإنما لقلة تعاني من «رمد» فكري فتقول إنني لم أكتب عن كذا وكيت، وهو مكتوب، وتأخذ عليّ انني سجلت إعجابي باليمن كبلد وبشعبه.