|
|
|
|
|
الأبعاد الاستراتيجية للأزمة اليمنية
بقلم/ رمزي بارود
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 29 يوماً الإثنين 24 مايو 2010 06:53 م
عندما انسحب السوفيت من أفغانستان في شهر فبراير 1989، فقدت الولايات المتحدة الأمريكية فجأة كل اهتمام لها بهذا البلد الذي وجد نفسه يعاني الدمار العارم الذي يضرب البنية الاقتصادية والفقر المدقع واحتدام الصراعات بين فرقاء الحرب إضافة إلى انقطاع المساعدات الدولية، مما جعله يغرق في الفوضى العارمة. تفاقمت أعمال العنف في داخل أفغانستان وسط تجاهل كامل من الولايات المتحدة الأمريكية التي استغلتها في حساباتها الاستراتيجية ضد الاتحاد السوفيتي في ذروة الحرب الباردة. فكل ما كان يهم الولايات المتحدة المريكية أن الغريم السوفيتي قد هزم وانهار واعتبر صناع السياسة في واشنطون أن المهمة تكون بذلك قد أنجزت واكتملت.
تظل أفغانستان تشكل أسوأ مثال على الكيفية التي تستغل بها الدول الفقيرة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول الكبرى قبل أن تتعرض للخيانة عندما تنتهي الحاجة إليها. لا تمثل أفغانستان الاستثناء في الحقيقة إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية تمارس نفس السياسة مع عدة دول أخرى مثل باكستان والصومال، إضافة للسلطة الفلسطينية في رام الله.
يبدو أن اليمن في طريقه كي يصبح ضحية أخرى من ضحايا لعبة الشطرنج التي تمارسها القوى العظمى. فالحكومة تبدو أكثر من مرة متشبثة أكثر من أي وقت مضى بالسلطة وسط تفاقم الفساد وتفشي الفقر وازدياد الضغوط الغربية غير المعلنة. لقد حكم الرئيس علي عبدالله صالح البلاد على مدى العقود الثلاثة الماضية وقد أبدى حنكة كبيرة في الحفاظ على بقائه سياسيا وسط عديد التحديات الصعبة.
فقد نشبت الحرب الأهلية التي خلفت سنة 1994 آلاف القتلى ورغم الانتصار الذي تحقق لقوى "الشمال" فإن الغضب لم يخب أبدا وظل يستعر في الجنوب. بعد ذلك اندلع الصراع في الشمال ضد المتمردين الحوثيين وقد بلغت المواجهات ذروة حدتها خلال الأشهر الستة الماضية مما أودى بحياة الكثير من الأشخاص كما تسبب ذلك في هجرة جماعية شملت مئات الآلاف (270 ألف نسمة وفق أحدث التقديرات الإحصائية الصادرة عن برنامج الغذاء التابع لمنظمة الأمم المتحدة). لقد أمكن الآن وقف القتال وحقن الدماء بفضل الهدنة الهشة التي تم التوصل إليها.
يعتبر المحللون أن اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال قد يعطي الفرصة للحكومة المركزية في صنعاء كي تتصدى للتحديات الخطيرة المتنامية في الجنوب وهم يحذرون من "ان الوضع في الجنوب قد بلغ نقطة اللاعودة، ان الرئيس علي عبدالله صالح سوف يرتكب خطأ جسيما إذا ما قرر القيام بحملة ضد الجنوبيين مثلما تعامل مع المتمردين الحوثيين في الشمال".
في ظل الضغوط الدولية قد يعمد الرئيس علي عبدالله صالح لاستهداف الحراك في الجنوب الذي ينادي بالانفصال. فالحكومات الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على وجه الخصوص يسقط في يدها ويعيل صبرها عندما تفضل دولة تعاني العديد من المشاكل والتحديات الداخلية مثل اليمن وغيرها اللجوء لخيار الحوار رغم أن مثل هذا الخيار قد يحقق الاستقرار السياسي على المدى البعيد. فقد تحدث الرئيس الأفغاني حامد قرضاي عن احتمال الانفتاح على حركة طالبان مما أثار موجة شديدة من الانتقادات والامتعاض في الدول الغربية.
تكرر نفس السيناريو في باكستان. عندما توصلت الفصائل الفلسطينية، وأعني حركتي حماس وفتح، إلى إبرام اتفاق مكة في شهر فبراير 2007 للتغلب على خلافاتهما تدخلت الولايات المتحدة بشكل فوري وسافر وفرضت شروطا على الدعم المالي الذي تقدمه لمحمود عباس، مما عجل بانهيار اتفاق مكة وتعميق شقة البين بين الحركتين الغريميتن وتفاقم الانقسامات في الشارع الفلسطيني. لذلك فإن أي محاولة للتواصل مع القوى والتيارات "الغاضبة" في اليمن، بما في ذلك القبائل وأحزاب المعارضة والأطراف الأخرى قد صورت في الغرب على أنها "محاولة لمهادنة الإرهابيين".عقب محاولة تفجير البارجة الأمريكية في غمرة الاحتفالات بأعياد الميلاد تجدد اهتمام سلطات واشنطون باليمن أكثر من أي وقت مضى لكن ذلك كان متوقعا.
في مطلع شهر ابريل 2010 أصدرت إدارة الرئيس باراك أوباما أمرا بتعقب المواطن الأمريكي أنور العولقي الذي يعتقد أنه ضالع في محاولة تفجير البارجة الأمريكية. يبدو أن أيام جورج بوش قد أطلت علينا برأسها من جديد.لقد ظلت القوات الأمريكية الخاصة تنشط في اليمن على مدى أعوام كاملة عقب أحداث 11 سبتمبر .2001 لقد اعتبرت إدارة بوش آنذاك أن "اليمن يمثل شريكا هاما في الحرب على الإرهاب" وهو لايزال كذلك كلما كانت هناك حاجة لدى الأمريكيين لمطاردة هذه الجماعة أو تلك في عمق الأراضي اليمنية، المرتبطة جزئيا بتنظيم القاعدة.لقد دفعت الحكومة المركزية ثمنا باهظا جراء تحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية ذلك أنها تواجه تحديات كبيرة في الشمال والجنوب والوسط كذلك. لا يمكن لأي حكومة تحترم نفسها أن تسمح بتحويل أراضيها إلى مرتع خصب للجماعات المسلحة أو ساحة حرب للقوات الأجنبية. ففي يوم 17 ديسمبر 2009 شنت القوات الأمريكية غارة على موقع يشتبه في أنه يستخدم كمعسكر لتنظيم القاعدة وهو ما أدى إلى مقتل 23 امرأة و17 طفلا حسب المصادر اليمنية نفسها.
إن اليمن يعتبر إلى حد بعيد ساحة معركة علما زأن حكومة صنعاء نادرا ما تكون لاعبا مركزيا في هذه المعركة. أظهر تقرير مؤشر الفساد في العالم أن اليمن يحتل المرتبة 154 من بين 180 بلدا وهو وضع ناجم عن تفشي الفقر وانعدام المحاسبة والرقابة مما جعل بعض الخبراء يعتبرون أن اليمن قد يكون غير قادر على الإفلات من هذه الحلقة المفرغة.
إن الدول المانحة التي تعهدت بمساعدة حكومة صنعاء قد تنكث بعهودها التي تقدم بكل سهولة عندما يكون اليمن يستعد للقيام بعملية عسكرية أو ما شابه وتقوم بدعم الحكومة المركزية في صنعاء في حرب الوكالة التي تخوضها لمكافحة الإرهاب.. لكن عندما يكون الشعب اليمني نفسه في حاجة ماسة للمساعدة فإن اليمن يصبح مهمشا من نفس هذه القوى الغربية.
لقد أظهرت التقارير الصادرة عن برنامج الغذاء العالمي أن 2،7 ملايين يمني يعانون المجاعة المزمنة كما أن قرابة نصف هذا العدد المذكور في حاجة إلى مساعدات غذائية فورية غير أن أقل من نصف مليون فقط يحصلون فعليا على هذه المساعدات الغذائية. لقد تأثرت هذه الشرائح الواسعة من السكان اليمنيين بشكل مباشر بالعواقب الوخيمة الناجمة عن سياسات الدول الغربية التي لا تخلو من نفاق في حساباتها الاستراتيجية التي لا تهتم ضمن أولوياتها بمصالح الشعوب الأصلية، إضافة إلى تورط الحكومة المركزية في صنعاء في مواجهات بالوكالة ضد النشطاء والقبائل وقوى الحراك في الجنوب.
لقد طالب برنامج الغذاء العالمي بتوفير مبلغ زهيد لا يتجاوز 103 ملايين دولار غير أنه لم يتسن حتى الآن جمع سوى مبلغ 27 مليون دولار علما أن ثمن الصاروخ الواحد من صواريخ كرز توماهوك يصل إلى 600 ألف دولار كما أن تكاليف العملية التي أدت إلى مصرع العشرات من اليمنيين الأبرياء في شهر ديسمبر 2009 تكفي لتوفير الغذاء للملايين من اليمنيين المحتاجين.
هذه ليست معادلة رياضية، فالأخطاء التي ترتكب هي التي تفرز البيئة الخصبة التي تولد الفقر والفساد والغضب والتيارات الراديكالية والتطرف.تقول إميليا كاسيليا، المتحدثة باسم برنامج الغذاء العالمي: "الناس أمامهم ثلاثة خيارات: التمرد أو الهجرة أو الموت".من المؤسف أن هذه الخيارات يمارسها اليوم الملايين من اليمنيين.
* رمزي بارود مؤلف كتاب "الانتفاضة الفلسطينية الثانية: يوميات نضال شعب".
*نقلا عن اخبار الخليج البحرينية: |
|
|
|
|
|
|
|