يتحدث الكثيرون في منطقتنا وخارجها عن مستقبل الديمقراطية بعد «الربيع العربي» رغم أن المهم بالنسبة لمنطقتنا هو مستقبل الاستبداد ومصيره، لا مستقبل الديمقراطية.
الديمقراطية بالنسبة لنا ضرب من الخيال، أما الاستبداد فهو من طبائعنا، لذا يكون الحديث عن مستقبل الاستبداد أوقع، بمعنى: هل يستخلص أو ينحسر؟ وبأي شكل؟ وفي أي مجال؟..
الحديث عن مستقبل الاستبداد وعن أنواعه وتفريعاته ومدى استمراريته بأشكال مختلفة لم يبدأ بعد، فمنطقتنا لا تزال غارقة في سكرة الثورة وأحاديث «الربيع العربي» التي خلبت لب الأجنبي فتلقفها العربي وكأنها حقيقة، فما يقوله الغرب عنا هو الحقيقة، وما نفعله نحن في بلادنا هو الوهم، هكذا تعمل عقولنا، لأسباب كثيرة نعرف البعض منها والبعض الآخر لا ندركه.
أحاديث العرب هي في الغالب إما جزء من هوجة فكرية تتغير بتغير الموجه وإما موضة فكرية أيضا تستورد خطوطها من بلدان أخرى، كما كان العرب في نهاية ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته يتحدثون عن الحداثة وعن البنوية، وهي أشياء ليس لهم منها نصيب، وذلك لأن الحداثة في الثقافة هي نتاج مجتمع حديث، ولا يستقيم للعقل أن نتحدث عن الحداثة في مجتمع ما قبل حداثي. ولكن العرب مغرمون بتفخيم القول الذي لا يفهم المتحدثون به ولو حتى مرجعيات مصطلحاته.
المهم في كل هذا، ورغم حماستي للتغير في ثورة مصر ووجودي في قلبها، فإنني أطرح أمامكم مقولة مفادها أن «الربيع العربي» لن يمثل قطيعة مع الاستبداد، بل هو امتداد له بتنويعات مختلفة، فالاستبداد كما الميكروبات تحدث له عملية mutations أو تحورات لمقاومة الأمصال المضادة، فنحن أمام حالة تحولات الاستبداد، لا التحول الديمقراطي، والأسباب كثيرة.
ما هو مستقبل «الربيع العربي»؟.. سؤال يشغل الخارج. هل سيؤدي «الربيع» إلى انفتاح جديد أم إعادة إنتاج القديم؟.. هذا هو السؤال. لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد من تفكيك المقولات الرائجة عن «الربيع». فمن المقولات الرائجة في العالم العربي والتي يتسلمها التحليل بنفس الزخم الذي ألهمت به تلك المقولات، الثورات.
وأولى هذه المقولات أو المنطلقات الفكرية والتحليلية السائدة هي فكرة تركيز السلطة في بؤرة الديكتاتور، ذلك الديكتاتور الذي بيده كل السلطات والمالك لكل شيء في الوطن والذي تتركز في يده السلطات والثروات، وهذه المقولة هي بداية سوء الفهم. فمثلا يكون اختزالا مخلا أن ندعي أن رجلا من نوعية مبارك وعائلته كان العائق الوحيد أو حتى الأول المعطل للعملية الديمقراطية في مصر.
إن الاهتمام المبالغ فيه في التحليل بالديكتاتور أو تركز السلطة الديكتاتورية في يد عائلة واحدة هو الضرر الأول الذي يعطب أي تفكير يساعدنا على فهم مستقبل «الربيع» أو مستقبل الاستبداد في منطقتنا، فالديكتاتورية في بلداننا لم تكن ديكتاتورية فرد كما يظن، أو أنها تعاني من تركيز السلطة في بؤرة الحكم، الديكتاتورية كانت ديكتاتورية موزعة، شيء أشبه بالماء الذي تتشربه الإسفنجة المتمثلة في شبكة علاقات عائلية قائمة تتحكم في رقبة المجتمع.
تفسير السلطة أو القوة بالشبكة الموزعة في المجتمع هو بداية الفهم، والدعوى بتركز السلطة في يد واحدة هي بداية الضلال والتضليل.
الديكتاتورية في مصر كانت نظاما كاملا له دعائمه، الأب في البيت إلى عمدة القرية إلى رئيس الحي إلى المحافظ، إلى رأس الدولة. كان المجتمع متشربا للديكتاتورية، وكانت التيارات برمتها متورطة فيها حتى الرقاب، الإسلامي والاشتراكي سيان في هذا. مرشد الجماعة ومبارك ورئيس الحزب الشيوعي كلهم من ذات القماشة. إذن لكي نتحول إلى الديمقراطية مطلوب ناس جديدة، «ومنين أجيب ناس»؟!
بداية، لا «الربيع العربي» بدأ بالأمس ولا الاستبداد العربي طارئ على تاريخنا.
فالعرب وحتى بعد مجيء الإسلام هم ليسوا أهل آيديولوجية ومشاركة لرؤية فكرية حول أنفسنا والعالم، نحن أهل علاقات دم ووشائج قرابة، أو «شلل» كما نسميها في مصر، وعلاقتنا بالأفكار كعلاقة فضائياتنا بعلوم الفضاء.
رغم أن الإسلام كان الثورة الفكرية الكبرى في تاريخنا فإننا كعرب نجحنا في تطويع الإسلام لخدمة القبيلة والأهل والعشيرة. بدأ التاريخ الإسلامي كثورة فكرية، كتاريخ لأفكار ودول، ولكنه، وبعد الخلافة الراشدة، في أولها، تحول إلى دولة القبيلة أو فخذ فيها من دولة الإسلام إلى دولة الأمويين ثم بعدها إلى دولة بني العباس ثم الفاطميين ثم كذا وكذا، أي إنه تاريخ قبائل لا تاريخ أفكار.
فهل هذا التاريخ القبلي وهل هذه الولاءات القبلية والعائلية وأولوية علاقات الدم على العلاقات الفكرية ذهبت إلى غير رجعة بعد «الربيع العربي»؟ بالطبع لم تذهب ولكن ارتدت العائلات والقبائل عباءة الثورة في اليمن وفي ليبيا، وفي مصر المعارضات قبائل لا أفكار.
بالطبع هناك بعد الثورة أحاديث الآيديولوجيات مثل الحديث عن «الإخوان» وعن السلفيين والجماعات الإسلامية، وكلها أحاديث تتناول العلامة الدالة على الشيء وليس أصله، فـ«الإخوان» والجماعات إذا فككت مشروعهم إلى عظامه العارية فأنت أمام قبائل وعائلات بعينها ضد قبائل أخرى وعائلات أخرى تتخذ من الإسلام غطاء، وليس لها من الإسلام سوى قشرة تغطي الوجه القبيح لمصالح قبلية لا تقل قبحا.
ليس معنى هذا أن الاستبداد هو مصيرنا، ولكن المبالغة في الاحتفالية بـ«الربيع»، هي أمر يحتاج إلى تفكير وتفكيك، فما خرج من الجامع سيعود إلى الجامع، وما خرج من القبيلة قطعا سيذهب إلى القبيلة، ومصر في هذا ليست استثناء.
"الشرق الأوسط"