لم تكن هذه بالزيارة الأولى لمصر.. فقد زرتها عدة مرات منها في السبعينات وفي الثمانينات ثم التسعينات، فبالرغم من التقدم النسبي في السن إلا أن ذاكرة زمان مازالت تحتفظ بكثير من المواقف والمشاهد وبالذات الجميلة وما أكثرها وأروعها زمان وما أندرها واقلها جمالاً الآن. صفاء أجواء مصر (القاهرة، الإسكندرية، بورسعيد) ومناطق أخرى منها الصعيد سواء جغرافياً أو حياتياً أو معيشياً وزرقة مياه نيلها وجودة ثمارها وطيبة أهلها.. هذه المزايا التي ارتسمت بذاكرتي لم تعد بذاتها أو بأقل منها ماثله في الواقع.
في هذه الزيارة رفضت ذاكرتي أن ترصد وتحفظ الكثير من المشاهد الغث منها بالذات مع ندرة قبول ما هو سمين واعني هنا (الغث، السمين، السلب، الإيجاب) في مختلف مجالات الحياة.
قد يكون للوضع السياسي الذي تعيشه مصر كما تعيشه بعض البلدان العربية التي أصيبت بما يوصف مجازاً حمى الربيع أو أحداث ما يطلق عليه البعض بثورات الربيع العربي، حضوره في تشكيل الحياة العامة في مصر الشقيقة، لكن وكما يبدو فإن عوامل أخرى ساهمت في تغيير صورة مصر زمان التي نقشت في وجداني على امتداد الأعوام الماضية، بما في ذلك مذاق مياه نيلها الذي لطالما تغنى به كل أبناء مصر وزوارها وارتوى منه مئات الملايين عبر التاريخ.
لم تعد مصر التي عرفتها في الماضي القريب كما عهدتها، حتى أن متنزهات النيل القابعة على ضفافه لم تعد بذات القدر من الهدوء و الجمال، وبالقدر نفسه تغيرت طبيعة المرتادين وأخلاقهم.
في مصر اليوم كما في العديد من الدول العربية تتصاعد نسبة النمو السكاني وبتكاثرها تتأثر حتى طقوس الطبيعة. مخرجات عوادم السيارات تضلل وتلبد أجواء القاهرة وغيرها كما هو الحال في بعض المدن اليمنية وان بنسب أقل. لا ريب أن إفرازات كل تلك العوامل والمتغيرات، قد انعكست سلبا على الحياة العامة، إذ صارت المادة حاضرة ومتحكمة على نحو لافت في أخلاق الناس وواقعهم بصورة مهولة وليس كما كان في الماضي القريب.
كثير من السلوكيات والمشاهد والتصرفات التي لم أعهدها في زيارات سابقة لمصر العروبة.. مصر عبد الناصر ومصر أكتوبر العظيم ومصر الأهرامات ونيلها الصافي وشواطئها الجميلة. اليوم تفاجئك بل وتضايقك وأنت تزور(المحروسة) بعض السلوكيات غير المعهودة بدءاً من سائق سيارة الأجرة مروراً بمؤجر شقة السكن وصولاً إلى المزاج العام والتعاملات الأخرى المرتبطة بالزائرين والتعامل الفج لأصحاب المحال التجارية باستثناء بعض الطيبين، والذين يعودون بك إلى ذكريات الزمن الجميل ويزيحون عنك بعض من هموم الواقع المليء بالمتناقضات. تجارة الطب: المرضى اليمنيون يقصد معظمهم مصر للعلاج وأذكر هنا منذ زيارتي الأولى في السبعينات لمصر كانت الرحلات الطبية للمرضى ذات جدوى في الكلفة وفي النتائج أما اليوم فهناك بون شاسع وكبير، تذاكر الطيران مرتفعة رغم تدني مستوى الخدمة المقدمة للمسافرين، زيارة الطبيب وأجور الكشف مرتفعة، كما أن أجور السكن تضاعفت بشكل مذهل مقارنة بالماضي القريب، ناهيك عن الضرورات الأخرى مع ملاحظة أن الفارق في الصرف للدولار لم يتجاوز نسبة 100 %، وهو مالا يبرر التصاعد الجنوني للأسعار بشكل عام. يمنيون يعانون من سوء تعامل ذوي القربى المقيمين في مصر كما يعانون من تدني معاملات بعض إخوانهم المصريين في أماكن كثيرة. هذه الملاحظة تدفعني لدعوة من يقصدون مصر للعلاج أن تكون للضرورة وللحالات المستعصى علاجها في اليمن، سيما وقد شهدت بلادنا تطورات ملحوظة في هذا المجال واصبح لدينا العديد من المستشفيات الجيدة والتي تمتلك الكثير من التقنيات الطبية المتطورة.
وأجدها مناسبة لدعوة القائمين على المرافق الصحية والطبية العامة والخاصة في بلادنا، إيلاء المزيد من الاهتمام والعناية بالتشخيص الطبي الدقيق للحالات المرضية باعتبار أن ذلك من أهم الأدوات الحاسمة لتحديد العلاج الصحيح والوصول إلى الشفاء بإذن الله تعالى. كما وأتمنى من سفارتنا و الملحقية الصحية أن يكون لها حضورها في خدمة المرضى ولو بشكل رمزي كراع ومرشد للتائهين من المرضى لدى بعض الأطباء والمستشفيات والاقتداء بما يلقاه مرضى الغير من قبل سفارات بلدانهم و ملحقياتها في مصر، ودمتم بألف خير.