يوم الـ20 من أبريل المنصرم كانت «أمي تقوى» الصديقة الحميمة لوالدتي ـ رحمها الله ـ في ضيافة أسرتي، وهذا ما تتكرّم به من وقت إلى آخر منذ وصية المرحومة والدتي لها أن تكون لنا أمّاً عوضاً عنها.
وفي مساء ذلك اليوم، وتحديداً خلال متابعتي لأخبار التاسعة مساءً من القناة الفضائية «اليمن» دخلت عليَّ مكتبي برفقة صغرى بناتي، ومعها روح أمّي ـ رحمها الله ـ وما تزخر به مدينة ذمار من نكتة وملاحظات فضولية.
ردّيت تحيتها بأحسن منها وطلبت منها الجلوس والانتظار حتى ينتهي مدير العلاقات في وزارة الداخلية العقيد دكتور محمد القاعدي من حديثه إلى الصحافيين الذين قال لهم إنه سيتحدث، ومن الآن وصاعداً بشفافية ووضوح، أو بوضوح وشفافية - لم أعد أذكر أيِّهُما سبقت الأخرى الشفافية أو الوضوح - المهم، لقد طَلبتُ منها الانتظار لمعرفتي أنها ستحدّثني عن والدتي وعن ذمار، وعن الدولة والإرهاب، وأن الحديث سيطول ويتشعّب.
انَتَظَرتْ أمّي تقوى على مضض متظاهرة بمشاركتي الإصغاء للعقيد محمد القاعدي إلى أن قال: أمَّا بالنسبة للشخصين اللذين قتلهما الأجنبي - المعروف لدينا - فهما من «القاعدة» وهنا لم تلتزم أمّي تقوى بالانتظار، فخالفت الاتفاق، وقد ارتسمت على وجهها علامات التعجُّب والاستغراب المُعبِّر، وقالت بلهجة ذمار: «يوه؟! عبدالله وَلَدِيْ قال لي إنهم واحد من مأرب والثاني من صعدة، كيف لوما قدهم من «القاعدة»؟! أكيد القاعدي أدْرَى» التفتُّ إليها مبتسماً وقلت: يا أمّي، العقيد القاعدي يقصد أن القتيلين من تنظيم «القاعدة» وليس من مدينة القاعدة، فقالت «قصدك القاعدة الّذي تحاكى عنَّهم الرئيس عبدربه اليوم الأول وقال إن أكثرهم من خارج اليمن، وهم الذي بيقتلوا الناس في كل بقعة..؟!» أجبتها بـ«نعم» فقالت: «ما هذا قد أنا دارية، كان عتْسألنِيْ وأنا شاقل لك إنهم من القاعدة، أنا مراعية أن هذا الذي بنسمعه عيكشف أساميهم ومن أين هم، ومن أرسلهم، هيا غلّق التلفزيون، غلّق واسمعني أحسن لك».
استلطفت تعليقها، وأقفلت التلفاز وأصغيت إلى حديثها المتشعّب مستمتعاً برحلة إلى الماضي، إلى طفولتي في ذمار وإلى والدتي، وبيتنا القديم المسمّى بـ«بيت المدرسة» لقربه من المدرسة الشمسية وارتباط أسرتي بها «مدرّسين وتلاميذ» ولم أقاطعها حتى ودّعتني وتركتني لكتابي ومكتبي.
عدت إلى خلوتي بنفسي لأتساءل: ترى لو كانت أمّي تقوى في المؤتمر الصحفي للعقيد دكتور محمد القاعدي، هل كانت ستسأله بقولها: «أنا دارية إنهم من القاعدة؛ ولكن من هم ومن أين، وهل هذا هو الوضوح والشفافية التي وعدتنا بهما..؟!».
وددت لو أنَّها لاتزال في مكتبي لأقول لها: الشفافية تتعكر يا أمّي، فالمياه الشفافة يمكن رؤية ما هو تحتها وبصورة أجمل، ولكن المياه العَكِرَة لا يمكن للمرء أن يرى ما تحتها وإن كانت لا تتجاوز كعب قدمه.
المياه العَكِرَة لا تُظهر ما تحتها، وما أكدت لي هذه الشفافية العَكِرَة تلكم الصورة التي أبرزتها فضائيتنا الرسمية لمن قالت إنهم كانوا سينفّذون عملية اغتيال واختطاف القائم بأعمال السفارة الإماراتية، وقامت بحجب وجوههم كي لا يعرفهم أحد حرصاً على مشاعرهم وسمعتهم الكريمة، لقد اكتفت الجهة المعنية بالقول: إن كوادرها قد ألقت القبض عليهم وأفشلت جريمتهم قبل وقوعها، ولكنها لم تذكر أسماءهم ولا هويات انتمائهم - وإن بالرموز - فهل هذه هي الشفافية..؟!.
الغريب جداً أن الصحافة الصادرة في اليوم التالي على هذا الاكتشاف والإنجاز العظيم والشفافية والوضوح لم تتساءل: لماذا لا يتم الكشف عن أسماء المقبوض عليهم ولا انتماءاتهم ولا الجهات التي تقف وراءهم، رغم إبرازها عناوين كبيرة مثل: الداخلية تكشف هوية مرتكبي محاولة اختطاف القائم بأعمال السفير الإماراتي..؟!.
هل تعلمون أن أمّي تقوى حين قرأت عليها هذا العنوان في اليوم التالي قالت: «كَشَفهم.. لا سَتَرْهُم» ولعلها تقصد كل من يتم التحفظ على أسمائهم وصورهم إلاّ في ما ندر، كما هو شأن الفرنسيين الذين تم القبض عليهما في مطار المكلا وقام أحد الحضور بتصويرهما.
الكل يتساءل عن أسباب عدم نشر أسماء وصور من يتم القبض عليهم متلبسين في حالات كثيرة منها، عندما يتم الإعلان عن إلقاء القبض من قبل النقطة الأمنية الفلانية على أسلحة مهرّبة، أو مناظير ليلية، أو كواتم صوت، وغير ذلك مما لا يتم التوضيح وكشف من يقف وراء تلك الصفقات بعد التحقيق مع المقبوض عليهم من المهرّبين لها، الذين لا تُنشر أسماؤهم ولا صورهم عقاباً وتحذيراً وردعاً لمن تسوّل له نفسه الأمّارة بالسوء، حتى عندما تم الإعلان عن إلقاء القبض في محافظة مأرب عن معدّات مصنع لتصنيع القذائف والمتفجّرات قادمة من محافظة حضرموت، وتم عرض المعدّات المقبوض عليها، وحجب المقبوض عليه والمقبوض لأجله والمستورد وبلد المنشأ... إلخ، وظل الأمر في دائرة المجهول المحاط بالسرية حتى يومنا.
في الأيام الماضية صدر أكثر من بيان عن إلقاء القبض على إرهابيين وخلايا قاعدية، في بعض المحافظات بما فيها أمانة العاصمة صنعاء، حيث أُعلن عن إلقاء القبض على خليّة إرهابية بين أفرادها سوريان قَدِما من هناك لتنفيذ أعمال تخريبية انتحارية، وكالعادة الغالبة لا إعلان عن أسمائهم، ولا عرض لصورهم ولا لما بحوزتهم؛ حتى وإن كانوا أجانب أو متسلّلين من سوريا جاءوا إلينا لرد شيء من الجميل..!!.
أما ذلك التركي المدعو أرمان طرموش الذي تم القبض عليه متسلّلاً بملابس نسائية وقام بتصويره عند القبض عليه أحد هواة التواصل، هاهو شهر يمر، ولا معلومة عن هدفه أو ما تم بشأنه، أو محاكمته... إلخ.
إنه لأمر محيِّر، ولو كان قرار عدم النشر الإيضاحي المطلوب قد اتخذ بعد الذي وقع عند الإعلان عن مقتل الضيف السعودي محمد الغامدي ومضيفه اليمني لقلنا إن الخطأ الذي تم الاعتذار عنه قد أوجب التريُّث وعدم التسرُّع، ولكن الحالات المشار إلى عدم كشف المعلومات الإعلامية الكاملة عنها قد وقعت قبل حادث الخطأ المذكور بأشهر وأعوام.
نأمل من وزارة الداخلية أن تراجع بياناتها، أو أن توضّح للناس بما يزيل الشك، ويطلعهم على المبرّرات المقنعة.