الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس بارِع في إطلاقِ “بالونات الاختبار”، سَواء كان ذلِك لجَسِّ نَبضِ الشَّارِع الفِلسطيني، أو التَّمهيد لمَشروعٍ سِياسيٍّ يبحَثُه مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو دول الجوار تَحت المِظلَّة الأمريكيّة، فهُو لا يُطلِق الكَلام على عناته، ولدينا سوابِق كثيرة في هذا الصَّدد، إبرزها تِلك التي أراد من خِلالها تهيِئَة الأجواء لتَمرير اتِّفاقات أوسلو عبر أحد مُساعديه قُبيل الإعلان عنها، ومِن ثَمَّ توقيعها في 13 أيلول (سبتمبر) عام 1993 في حديقة البيت الأبيض، وهو ومُساعده الذي انشقَّ عَنه، يَعرِفان جيِّدًا ماذا نَقصِد.
نَدخُل في المَوضوع مُباشَرةً، ونَبدأ من الزُّبدة، وبالأَحرى تَعمُّد الرئيس عبّاس الكَشف عن عَرضٍ تلقَّاه من جاريد كوشنر، صِهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومُستشاره، ومن تابِعه جيسون غرينبلات، المَبعوث الأمريكيّ، يقوم على أساسِ إقامة كونفدراليّة فِلسطينيّة إسرائيليّة، اشتَرط انضمام إسرائيل إليها، أي أنّ تكون كونفدراليّة ثُلاثيّة أردنيّة فِلسطينيّة إسرائيليّة.
هذا الكَشف المُفاجِئ جاءَ أثناء اجتماعٍ عَقَدَهُ الرئيس عبّاس مع وَفدٍ يُمَثِّل حركة “السَّلام الآن” الإسرائيليّة “المُنقَرِضَة”، وسَرَّبت تفاصيله السيّدة هاغيت عوفران إلى صحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة، عن عَمد، وربّما بإيعازٍ، مُباشِرٍ أو غَير مُباشِر، من الرئيس عبّاس نَفسِه.
***
المُتحَدِّثون باسم الرئيس الفِلسطيني أكَّدوا حُدوث اللِّقاء، وتَجنَّبوا الحَديث عن العَرضِ الكُونفدراليّ الثُّلاثيّ، ولم يُعلِنوا أي رَفضٍ له، وكرَّروا الأسطوانَة المَشروخة التي تقول أنّ حَلَّ الدَّولتين هو المَدخل للعَلاقة الخاصَّة مع الأُردن، وأنّ الكونفدراليّة قَرار يَخُص الشَّعبَين، ولكن هذا لا يَنْفِي شُكوكنا عن احتماليّة وجود “طَبخَةٍ ما”، أو بعض مُكوِّناتها، أرادَ الرئيس عبّاس تَسريبَها في ظِل الأحاديث المُتواتِرة عن “صفقة القرن”، ورَفض مجلسه المَركزيّ، ومن ثَمُّ سُلطَتِه، تنفيذ أيٍّ من القرارات المُتَّخَذة لسَحب الاعتراف بإسرائيل وإنهاءِ التَّنسيق الأمنيّ مَعَها.
لا نَستبعِد أن يكون هذا التَّسريب هو أحَد الأضلاع الرئيسيّة لصَفقة القرن التي تُطَبِّق حاليًّا على مَراحِل، الأُولى كانت نقل السِّفارة الأمريكيّة إلى القُدس المُحتلَّة، والاعتراف بِها كعاصِمَةٍ أبديّة لإسرائيل، وإخراجها مِن عمليّة التَّفاوض، والثانية مُحاوَلة إلغاء حَق العَودة وقضيّة اللاجئين مِن خِلال مُحاوَلة تصفية وكالة غوث اللاجئين (أونروا) بقَطع المُساعدات الماليّة الأمريكيّة عنها، ومَنع الآخرين مِن دُوَل الخليج العربيّ التَّبرُّع لها، والثالثة صَفقَة التهدئة مع حركة “حماس” في قِطاع غزّة لخَمسِ سَنواتٍ أو أكثَر، وما يَتفرَّع عنها من “حُلولٍ إنسانيّة”.
مِن الواضِح أنّ صفقة القرن تُريد سَلخ قِطاع غزّة عن الضِّفّة الغربيّة بصُورةٍ نهائيّة، وإقامَة “إمارةٍ غزيّة” وسلامٍ اقتصاديٍّ، على غِرار “سلام” سلام فياض في الضِّفَّة، والجمعة الحزينة في إيرلندا الشماليّة، وإعادة ما تَبقَّى من الضفة الغربيّة إلى الأُردن، لأنّ إسرائيل حَصَلت على ما تُريده من الأرضِ والمياه، وتُريد تصدير “عِبء” ثلاثة ملايين ونِصف مليون من أبنائِها إلى الأُردن، مَع وعود ببضعَة مِليارات من المُساعَدات الماليّة.
الرئيس عبّاس فجّر قُنبلته هَذهِ حَول الكونفدراليّة الثلاثيّة هَذهِ لتَحقيق ثلاثة أهداف في رأيِنا:
ـ الأوّل: إدراكه أنّ هَذهِ الكونفدراليّة مطروحة على النِّقاش في إطار صفقة القرن، وأراد أن يُعرقِلها بإضافَة إسرائيل إليها، لأنّه يعلم جيّدًا أنّ إسرائيل لا يُمكِن أن تَقبَل بأن يكون اليهود أقليّة الأقليّة ويَذوبون فيها، وهُم الذين أصدروا قانون الهويّة اليهوديّة للدَّولة قبل بِضعَة أسابيع فقط.
ـ الثاني: أن يكون الرئيس عبّاس يُمَهِّد فِعلاً لكونفدراليّة أُردنيّة فِلسطينيّة دون التَّمسُّك بشَرط قِيام الدولة الفِلسطينيّة أوّلاً، الذي وضعته القِيادة الفِلسطينيّة عام 1984، وهذا ليس مُستَغربًا مِنه وهو الذي قَزَّم حق العَودة في المُفاوضات اللاحقة، وجعل هذا الحَق مَقصورًا على بِضعَة آلاف من اللاجئين الأوائِل الذين مات مُعظَمهم، أو في طَريقِهم للمَوت، الأمر الذي يَتطابَق مع التَّعريف الأمريكيّ الجَديد لللاجِئين.
ـ الثالث: التَّسليم بفَصلِ الضفة عن القِطاع، والتركيز على الأُولى، أي الضفة، بعد استبعاده كُلِّيًّا من قِبَل السُّلطات المِصريّة من مُفاوضات التهدئة، وتآكُل تَمثيل المُنظَّمة والسُّلطة للشعب الفِلسطيني، وبَحثِه عن دَورٍ جَديدٍ يُعيده إلى الأضواء بِقُوَّةٍ.
صَحيح أن السيدة جمانة غنيمات، الناطق باسم الحُكومة الأُردنيّة، أكَّدت في تَصريحاتٍ نقلتها وكالات محليٍة ودوليٍة بأنّ ربط الضِّفَّة بالأُردن غير مُمكن، وغير قابِل للنقاش، ولكن الصحيح أيضًا أنّ المَوقِف الأُردني ما زالَ يتَّسِم بالغُموض ليس حول هَذهِ المَسألةِ فقط، وإنّما حول مَسائِل أُخرى لا تَقِل أهميّةً أيضًا.
نَشرَح أكثر ونقول أنّ المُؤامرة الأمريكيّة الإسرائيليّة لإلغاء وكالة غوث اللاجئين “الأونروا” عبر تجفيف مَوارِدها الماليّة، وتقليص خَدماتِها، تُشَكِّل خَطرًا وجوديًّا على الأُردن نفسه، وخُطوة رئيسيّة لإقامَة “الوطن البديل” على أرضِه مع إدخال بعض “التَّرقيعات” و”التحسينات” غير المُباشِرة، وتَبَخُّر كُل رِهانات السُّلطات الأردنيّة بحَل كُل أزماتِها الماليّة (حجم الدين العام 40 مِليار دولار حاليًّا) وفوائده السنويّة 2.2 مِليار دولار سَنويًّا، من خِلال تعويضات اللاجئين الفِلسطينيين المُقيمين على أرضِه.
***
لا يُمكِن أن نُصَدِّق أنّ السُّلطات الأردنيّة لم تَكُن على عِلمٍ مُبكِر بالمُخطَّط الأمريكيّ الإسرائيليّ لإلغاءِ وكالة “أونروا”، وحق العَودة للاجئين بالتَّالي، وإذا كانت على عِلمٍ ودِرايَةٍ فِعْلاً، وهُو المُرجَّح، فلماذا لم تتحرَّك بقُوَّةٍ لإحباط هذا المُخطَّط؟ وإذا كانت تَملُك الأسباب التي جعلتها تنتظر، أو تتلكّأ بالتَّحرُّك إلى ما بَعد إلغاء أمريكا لدَعمِها للوكالة، فعَليها أن تُعلِنها، وتُصارِح الشَّعبين الأُردني والفِلسطينيّ بِها.
لدَينا الكثير الذي يُمكِن أن نقوله، وهو مَبنيٌّ حتّى الآن على تَحليل، وليس بِناءً على مَعلوماتٍ مُؤكَّدةٍ، ولهذا لا نُريد أن نَستَبِق الأحداث ونُصدِر أحكامًا في غَيرِ أوانِها، ونَرى أنّ من الحِكمَة الانتظار حتى يَهدَأ الغُبار، وتتَّضِح مَعالِم “الطَّبخة” التي جَرى، ويَجْرِي، إعدادها في القُدس المُحتلَّة، وبمُبارَكة الإدارة الأمريكيّة، وربّما تَنتَقِل إلى مَرحلة التَّطبيق في غُضونِ أَشْهُرٍ مَعدودَةٍ.
نَقول مَرَّة أُخرَى، أنّ تسريبات الرئيس عبّاس ليسَت صُدفَة، والرَّجُل لا يَنطِق عن هَوى، خاصَّةً في ظِل حال التَّهميش الفِلسطينيّ والإقليميّ التي يعيشها حاليًّا، ومُحاولاتِه المُتعاظِمة لكَسْرِها، وظُهور العَديد من التَّقارير التي تُؤكِّد أنّ مُقاطَعته لأمريكا غَير دقيقة، وأنّ اتِّصالاتِه مع الإسرائيليين السِّريَّة لم تتَوقَّف، خاصَّةً الاعتراف بأنّه يَلتَقِي مع رئيس جِهاز المُخابرات الإسرائيليّ مَرَّةً كُل شَهر.
قَلبنا على فِلسطين وقضيّتها، وقَلبنا أيضًا على الأُردن، وأمنِه واستقرارِه، فحالَة الصَّمت وعدم الوُضوح الرَّسميّة الحاليّة التي تَسود الدَّوائِر الرسميٍة في الأُردن حول مَوضوعاتٍ عديدة محليّة وإقليميّة تَجعَلنا نَشْعُر بالقَلق.. ونأمَل أن يكون قَلقنا في غَيرِ مَحَلِّه.
Print Friendly, PDF & Email
مشاركة Facebook Twitter