للمرة الثانية يوجّه الشعب المصري ضربة مؤثّرة لتنظيم الإخوان المتأسلمين الإرهابي، ففي المرة الأولى مثّلت الضربة نقطة تحوّل جذري في مسيرة تاريخ الدولة المصرية حينما هبّت جموع الشعب في مشهد تاريخي قلّ أن يتكرر، لتفوّض السيسي بطرد الإخوان المتأسلمين من مصر وحكمها، وكانت نتيجة ذلك التفويض أن قدّم القادة الإخوانيون أبشع أمثال الأنانية وحبّ الذات، تلك العادات التي غرسها التنظيم فيهم، فدفعوا ببعض المغرر بهم ممن اختاروا شراء الأوهام المضللة إلى أتون المواجهة والموت في ميدان رابعة العدوية الذي مات فيه الكثيرون برصاص التنظيم الإخواني الذي عمد لاستخدامهم دون رحمة لتوفير صورة لعدسات كاميرات قناة الفتنة التي تسببت في تمهيد طريقهم للحكم. وكان مخطط الإخوان يقضي بتوفير أكبر قدر من القتلى بين صفوف أتباعهم، حتى يرى العالم الصورة من خلال قناتهم «الجزيرة»، ويتعاطف معهم. فالتنظيم لم يتعلم من تاريخه الطويل أن مواجهته للشعوب كانت دائماً تضعه في خانة الطرف الخاسر، لأن الشعوب مهما خُدعت بشعارات دينية برّاقة أشبه بكلمات حق يُراد بها باطل، سرعان ما تستيقظ وتدرك الحقائق، فللشعوب عقول تميّز بين الحق والباطل، وهي كما أثبتت التجارب، سرعان ما تنتفض على الباطل حالما تكتشفه مهما طال خداعها، وحينها لا تستطيع أقوى الأنظمة مواجهة أعاصيرها.
الضربة الثانية جاءت في الانتخابات الأخيرة التي قال فيها التنظيم رأيه بوضوح من خلال فتوى الأب الروحي للتنظيم، شيخ الفتنة المدعو يوسف القرضاوي، الذي أمر الشعب المصري بعدم المشاركة في الانتخابات، وأوصل الأمر لدرجة التحريم، غير أن الشعب المصري ردّ عليه رداً عملياً يحمل العديد من الدلالات التي جعلت التنظيم يخسر الكثير مما تبقّى لديه من نقاط، ففي عقر دار شيخ الفتنة تزاحمت الأقدام المصرية التي جاهرت علناً بتأييدها السيسي، وقالت للقرضاوي ومن يقف وراءه ويؤازره، ويساعده على إنتاج الفتن، بأن زمن انقياد الشعوب وراء فتاواه المضللة بعد انكشاف أمره وأمر تنظيمه، بات في عداد المستحيلات، وأن التنظيم الإخواني المتأسلم لم يعد ذلك التنظيم الذي يستطيع أن يتبجّح بامتلاكه تأثيراً كبيراً على الشارع العام، خاصة المصري منه، وأن من يحاول التنظيم الإخواني الإرهابي أن يلصق به تهمة الانقلاب، ها هو ذا الشعب المصري الذي فوّضه بطرد التنظيم، ينفي عنه هذه التّهمة، ويتصدّى بكل قوة ووضوح لأكاذيب التنظيم.
الضربة هذه المرة ستشكّل تحولا جديداً في التاريخ المصري، فالشعب سيختار حكومته الجديدة بوعي متزايد، ولن تنطلي عليه تلك الشعارات الزائفة التي انطلقت بها الجماعة الإرهابية بعد مبارك لترصف بها الطريق أمام المخلوع محمد مرسي العيّاط ليلعب ذات الدور الذي لعبه غورباتشوف ويلتسين اللذان قاما بتمزيق الاتحاد السوفييتي وكسر هيبة الشيوعية الحمراء، غير أن الأخيرين حطّما دولتهما وحزبهما عن قصد، بينما المخلوع العياط ورفاقه حاولوا تحطيم مصر عن قصد، ونجحوا في كسر هيبة الوهم الإخواني بغير قصد، من خلال مواجهات الدولة والشعب، ومحاولات أخونة مصر، بعد صراعات مستميتة مع القضاء والدستور والمؤسسة العسكرية التي انتهى حكم التنظيم على يديها بدعم الشعب في خاتمة المطاف.
الحكومة القادمة هذه المرة تمثّل حتى الآن وفق كل التّوقعات، فوز المرشح عبدالفتاح السيسي الذي أجمع عليه معظم أفراد الشعب المصري، وهو رئيس يختلف عن كل رؤساء مصر السابقين، فهو أول رئيس يفوز بتصويت الشعب في تأييده خلع مرسي حتى قبل إعلانه التّرشّح لرئاسة الدولة، وهو أول رئيس يترشح برغبة الشعب لا رغبته، ويصرّح بأنه في حال فوزه لو طلب الشعب منه في أية لحظة مغادرة دفة الحكم، فلن يتردد لحظة في تسليم الأمانة لأصحابها، وسيكون أول رئيس منتخب يقود مصر التّواقة لمصالحتها مع ذاتها، لتعود إلى مكانتها الحقيقية التي أقعدتها عنها فعائل التنظيم الإخواني المتأسلم قبل، وأثناء، وبعد انقضاء فترة حكمه السوداء.
وللمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث تحرّك القائدَ رغبةُ وإرادةُ الشعب لا العكس، وقد منح السيسي نفسه حولين كاملين في دراسة واقعية لإمكانيات إحداث تغيير متوقّع، على عكس المخلوع مرسي العيّاط الذي بدأ حكمه بكذبة مكشوفة، عندما تعهّد للشعب بإحداث معجزات في 100 يوم؛ هذه الإرادة المصرية التي شهدها كل العالم، تزامنت مع حدث كبير لا يقل عظمة عنها؛ فالزيارة الأخيرة التي قام بها الأمير سعود الفيصل، وزير خارجية السعودية، بوفد نوعي رفيع المستوى يتقدمه الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز، وزير الداخلية السعودي، وكان في استقباله، الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، كان نتاجها عظيماً جداً، وقد نزل برداً وسلاماً على شعبي البلدين اللذين قابلا الإعلان عن تأسيس لجنة عليا مشتركة لمواجهة التحديات في المنطقة برئاسة وزيري الخارجية في البلدين الشقيقين بارتياح بالغ وفرحة مضاعفة، وهي خطوة مهمة لكل من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية اللتين تصدّتا لفضح الفكر الإخواني، وساهمتا بقوة في تطهير المنطقة، خاصة بلد المنشأ مصر، من دنس الإخوان المتأسلمين، وقد أعلنت الدولتان التنظيم الإخواني المتأسلم، تنظيماً إرهابياً، بعدما فككت مختلف خلاياه السريّة التي غررت بالبعض، وحاولت استغلال ضعاف النفوس في زعزعة أمن واستقرار الدولتين، في محاولة واهمة من التنظيم وأعوانه في الدولتين، باستنساخ تجربة الجحيم العربي التي سرعان ما انكشف عنها الغطاء بعد نجاحها الخادع في زعزعة الأمن والاستقرار، والتّخلّص من بعض الأنظمة التي كانت تقف بقوة في وجه طموح التمدد المحمول على وهم تحقيق دولة الخلافة الإخوانية، ما جعل التنظيم الذي استهدف الدولتين معاً، يصرّح أكثر من مرة برغبته في الانتقام منهما. كما تشترك الدولتان في مواجهة الخطر الشيعي الصفوي الذي لا زال يحتلّ جزر الإمارات الثلاث، ويمضي بمخططاته اليائسة في السعودية والبحرين.
وبنظرة للرمال المتحركة التي تقف عليها المنطقة، وما تشكله الدولتان من عمق أمني استراتيجي للأخرى، فإن اللجان المشتركة التي تم الإعلان عنها، هي الضامن الأكبر لأمنهما معاً، وهي بالتأكيد ترجمة عملية للعلاقات الأزلية التي جمعت البلدين.
د. سالم حميد
كاتب من الإمارات