الطائفية والطائفية المضادة من عوامل ازدراء الإنسان والوطن، ومهما طال الزمن سيفهم الجميع يوماً أن الخيارات الوطنية على قاعدة الدولة المدنية هي النجاة الوحيدة للبلد ومستقبلها، وأما من يستوعب الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا على سبيل المثال فسيفهم أن الدولة المدنية جاءت هناك بعد خسائر رهيبة بسبب الاستغلال السياسي للدين، إضافة إلى كل من دار في فلك هذه الصيغة المستبدة من إقطاعيين وأباطرة، جعلوا لأنفسهم امتيازات عليا بتأييد من رجال الكنيسة الذين كانوا يحتكرون المرجعية في المجتمع ما تسبّب في إحداث تمزقات طبقية مهولة في النسيج الاجتماعي، إلى أن نضجت الظروف الموضوعية لاصطدام المثقفين والتنويريين والتثويريين بتلك الطبقات الاستغلالية والكهنوتية، مؤازرين بأبناء الشعب المسحوق، ورويداً رويداً نجت أوروبا من الفقر والظلم الاجتماعي وفساد النخبة المتسلطة.
نجت من التعصب والعنف واللا تسامح والحروب الإقليمية؛ ودخلت عصر العقل والتسامح والسلام والتحديث؛ لذلك يجب استيعاب أن الحكم ليس احتكاراً وتمييزاً، بل الحكم للشعب، عن طريق السياسة والدمقرطة، كما يجب الإقرار التام أن الدولة المدنية لا تعادي الدين أبداً، وإنها تستمد سلطتها من القوانين لا من الفتاوى، كذلك لابد من ضرورة إصلاح الحال الاقتصادي وتطهيره من المفاسد، فيما الصراع اقتصادياً في جوهره، وبمصالح سياسية تستدعي هيمنة الدولة لتصون كل المتصارعين وفق القانون.
وفي السياق ليس من المعقول كل هذا التواطؤ القائم مع تذكية خيارات الصراعات الطائفية ضد التنوع العقدي في هذا البلد كما كان بين البروتستانت والكاثوليك هناك، بحيث لن تصوننا جميعاً كيمنيين إلا الدولة المدنية فقط وكحتمية لابد منها، بينما يبقى المطلوب وبشدة تشكل حركة للإصلاح الديني تخلّص الدين من الشوائب والممارسات الخاطئة والتشويهية، حركة تجديد وارتقاء وسوية ولا عنف، حركة ترفض الاستغلال السياسي للدين وتطييف قضايا وهموم المجتمع.
فالطائفية والطائفية المضادة أبشع ما توصل له الإنسان من وعي مخبول، إنهما الانحراف الوطني الذي لا يُطاق، فبسببهما تضيع قيمة المواطن كإنسان، كما بسببهما لا تتجلّى غير التلاشيات الموحشة للإحساس الوجداني لمعنى الوطن كبوتقة لجميع أبنائه، ولهذا يصير الوطن أكثر من منفى، بل عامل تعزيز للكراهيات والهمجيات والاقتتالات، وإعاقة رئيسية لأي إبداع أو إنتاج أو تطور.
fathi_nasr@hotmail.com