نالت اليمن لحظتها في الظهور تحت الأضواء العالمية قبل ستة أشهر ولكن لأسباب كلها باطلة. وعلى الرغم من الاهتمام المفاجئ، إلا أن الاقتصاد يزداد سوءاً. بل وهنالك مخاوف أيضاً من أن البلد قد تصبح ملاذاً آمناً للتطرف والحرابة، غير أن المطاردة الحثيثة قد تعطي نتائج عكسية.
إن المحاولة الفاشلة يوم الكريسماس لتفجير طائرة ركاب تابعة لطيران نورث-ويست، الرحلة 253، في أجواء دترويت قد جعلت الصحفيين من مختلف أصقاع العالم يدخلون محرك البحث جوجل بحثاً عن اليمن. وقد عمل الكشف عن أن منفذ تفجير دترويت كان قد تلقى التدريب والمتفجرات هناك على اجتذاب الحشود من الصحفيين الأجانب إلى هذا البلد الذي قلما تـُنشر حوله التقارير. وقد بقيت المتابعة الإعلامية المكثفة لمدة شهر ، لتهدأ بعد انعقاد مؤتمر رفيع المستوى في لندن بنهاية شهر يناير، والذي حضرته وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية هليري كلينتون.
وكانت كلينتون قد وافقت على تدشين أصدقاء اليمن، وهي جماعة تواصل غير رسميةتضم أكثر من عشرين دولة مانحة تعهدت بتبني آلية شاملة لتناول مشاكل اليمن المتعددة. إن البلد الأفقر في الشرق الأوسط يواجه انفصاليين جنوبيين ومتمردين شماليين، إلى جانب تواجد القاعدة في جزيرة العرب التي تتخذ من اليمن مقراً لها. كما أن الإنتاج النفطي يشهد انخفاضاً متسارعا، فبعد أن كان 460 ألف برميل كأعلى مستوى له في العام 2002، من المتوقع أن يصل 260 ألف برميل هذا العام.
إن انتقال اليمن التدريجي من الاعتماد على النفط إلى اقتصاد ما بعد النفط يمثل التحدي الخاص بحفظ الأمن والاستقرار بنقص في الثروات لم يشهده البلد من قبل. ويتمثل الهدف من الآلية التي أيدها أصدقاء اليمن في معالجة هذا الأمر. ولكن بعد ستة أشهر من تفجير دترويت الذي أشهر اليمن، يسير في الوقت الراهن اقتصاد البلد في اتجاه خاطئ. فلقد شهدت الاحتياطيات من النقد الأجنبي تدنياً جديدا، كما أن العجز في الوازنة يـُقدر بما نسبته عشرة بالمائة من إجمالي الناتج المحلي ومن المتوقع أن يزداد العجز في الحسابات الجارية ليبلغ مستويات غير مسبوقة خلال العام القادم.
في الأشهر الأخيرة، انخفض الريال اليمني بنسبة عشرة بالمائة مقابل الدولار، مما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية الرئيسية، مثل الأرز والقمح، والتسبب في حدوث إضرابات جراء الارتفاع في تكاليف المعيشة. إن الحكومة تبدد الاحتياطيات الثمينة من النقد الأجنبي عن طريق بيع الدولارات في سبيل استقرار سعر الصرف. في العام الماضي، استخدم البنك المركزي مليار دولار في محاولة لحماية العملة؛ وفي الأشهر الستة الأولى من هذا العام أنفق من جديد ما يقارب نفس المبلغ. وفي حال استمر هذا الوضع، فإن البنك المركزي سيستنفد احتياطياته من النقد الأجنبي في غضون عامين، مما سيزيد من التوقع بتفشي الاضطراب الاجتماعي إذا ما سار الريال صوب هبوط لا مرد له.
إن رجال السياسية الأكاديمية ورجال الإصلاح في اليمن يدركون الحاجة الماسة لتنويع الاقتصاد غير أن الاستثمار الداخلي يعتبر من بين أدني الاستثمارات في المنطقة، ويتم توجيه الإنفاق نحو قطاع الطاقة ومساكن الترف. وهنالك تدني في مستوى مجال الأعمال الموجهة للمشاريع الصغيرة التي تلبي احتياجات المجتمع. إن ارتفاع أسعار الفائدة - والمثبتة حالياً عند نسبة عشرين بالمائة من أجل حماية الريال - إلى جانب ضعف البنية التحتية وما يلاحظ من تفشي للفساد وكذا المخاوف بشأن الأمن كلها عوامل إضافية لا تشجع إمكانية الاستثمار.
على الرغم من أزمة النقد المتصاعدة، إلا أن وسائل الإعلام الدولية ما تزال تركز على نشاط القاعدة في جزيرة العرب، مما يـُرسخ النظرة عن اليمن بأنها ملاذ آمن جديد. وكانت محاولتها في أبريل لاغتيال السفير البريطاني في صنعاء قد حققت تأثير نفسي بليغ - حتى وإن كان منفذ التفجير قد فشل في قتل أو حتى جرح هدفه - والسبب أنه تمكن من تفجير عبوته الناسفة على بعد بضعة أمتار من دبلوماسي شهير جداً.
إن التغيير الأخير في تكتيكات الجماعة، باستخدام أشخاص مشاة كانتحاريين لمهاجمة أفراد مستهدفين في كل من اليمن والمملكة العربية السعودية، يحمل دلالات ضمنية فيما يخص الأمن بمختلف أرجاء شبه الجزيرة العربية.
عدو جماهيري في أميركيا:
إن السطوع المتنامي للقاعدة في جزيرة العرب يثير تساؤلات حول عملية التجنيد ونشر أفكار التطرف في اليمن، وخصوصاً بين أوساط المواطنين الأميركيين ومن الجنسيات الأجنبية الأخرى الذين يدرسون باليمن في معاهد اللغة العربية ومدارس السلفيين ومعسكرات القاعدة التدريبية.
كما أن وجود أنور العولقي، أحد مشايخ الدين المتطرفين يمني الأصل أميركي الجنسية، يثير قلق استثنائي في واشنطن. إن العولقي، الذي كان يلقي الخطب في أحد مساجد فرجينيا قبل أن يستقر في مسقط رأس أبيه، كانت له صلات غير مباشرة بعملية دموية لإطلاق نار في العام الماضي بولاية تكساس، راح ضحيتها 12 جندي أميركي وآخر مدني، وكذلك بمحاولة التفجير يوم الكريسماس.
طلاقة العولقي في اللغتين الإنجليزية والعربية وتمتعه بجنسيتين وقدراته الملحوظة في تشكيل عواطف المسلمين والمعتنقين الجدد للإسلام غربيي المولد، كل ذلك قد سارع في تحويله إلى عدو جماهيري في أميركا.
منذ البداية، ظلت وسائل الإعلام الأميركية تصور العولقي من أنه عميل للقاعدة في جزيرة العرب، وهو ما نفاه الواعظ في بادئ الأمر. ومع ذلك، في شهر أبريل،تم إدراجه ضمن قائمة الاستهداف المباح الخاصة بوكالة الاستخبارات المركزية، وكان ذلك عندما تلقت الوكالة أمر بالقتل مثير للجدل بـُني على أساس صلته المزعومة بالقاعدة. بعدها كان أول ظهور للعولقي على شريط فيديو خاص بالجماعة في اليمن، يؤيد القتل الوحشي للمواطنين الغربيين.
وكان رئيس الوزراء اليمني، علي محمد مجور، قد استنكر بشدة فكرة اغتيال العولقي باعتبار ذلك انتهاك غير مقبول لسيادة بلده. كما أن وزير الخارجية أبو بكر القربي قد دعا إلى تقديم دليل مادي يؤيد إعادة اعتقال العولقي ومحاكمته في اليمن؛ حيث كان قد اعتـُقل لأول مرة باليمن في العام 2006 على ذمة صلته المزعومة بالقاعدة ولكن تم إطلاق سراحه بعدها بعام. والرفض الذي بدا من مسؤولين يمنيين كبار في الامتثال للمطلب الأخير لواشنطن يمكن فقط تفسيره جزئياً بحقيقة أن العولقي نجل لوزير سابق ينتمي لقبيلة في محافظة شبوة المنتجة للنفط، والتي تقل فيها سلطة الحكومة المركزية.
إن ما يتجسد في الواقع من مناهضة من قبل المسؤولين للأجندة الأميركية يلقي الضوء أيضاً على القضية الجوهرية المتعلقة بضعف شرعية الحكومة، في بلد يزداد عداء الرأي العام لسياسة واشنطن الخارجية. صحيح أن الإدارة ألغت إرسال قوات نظامية إلا أنه من المعلوم أن فرقها العسكرية تتبادل المعلومات الاستخباراتيةوتقوم بعمليات سرية مشتركة مع القوات اليمنية، بما في ذلك ملاحقة وقتل مشتبهين بالإرهاب، بحسب ما ورد عن صحيفة واشنطن بوست الأميركية يوم 27 يناير.
ومن المتوقع أن تتوسع الأنشطة العسكرية السرية عقب الأمر التنفيذي لوحدة الحرب غير التقليدية المشتركة، الذي تم توقيعه العام الماضي ويجيز للجيش الأميركي استخدام طرق سرية في 'اختراق أو تمزيق أو دحر أو تدمير' القاعدة وفي 'إعداد الجو المناسب' لهجمات مستقبلية في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط.
في الآونة الأخيرة، تعهدت واشنطن بتقديم ما قيمته 150 مليون دولار من المساعدات العسكرية لليمن غير أن بنية القيادة العليا للقاعدة في جزيرة العرب ما تزال سليمة كما أن الإحباط قد بدأ في الازدياد بين أوساط بعض المسؤولين الأميركيين، الذين يريدون رؤية ما يـُظهر النية الصادقة بشأن قضية العولقي.
على الرغم من أن الواعظ [العولقي] يشكل تهديداً جلياً للمصالح الأميركية، إلا أن عملية الدفع الحالية صوب المطاردة الحثيثة يجب أن تقاس مقارنةً بجدوى النتيجة. يقول أحد الأكاديميين المستقلين، والذي يعتقد أنه من الأفضل خدمةً للمصالح الأميركية أن تتم مساعدة السلطات اليمنية في الإمساك بالعولقي واحتوائه بصورة فعالة، يقول 'سيـُصنع منه بطلا؛ لو قتله الأميركيون، فإنهم سيطلقون العنان للمئات من أمثاله.' طالما أنه يحمل جنسيتين، من الممكن من الناحية النظرية للسلطات الأميركية أن تطالب بتسليمه لأميركا لمحاكمته هناك، ولكن لا توجد اتفاقية تبادل مطلوبين بين البلدين.
هلاك مدار عن بعد:
لقد بدأت الضربات الصاروخية التي تستهدف القيادة المحلية للقاعدة في ديسمبر الماضي، وما تزال مستمرة. وكانت الحكومة اليمنية قد ادعت بأن قواتها الأمنيةهي المسؤولة عن تلك الضربات. ومع ذلك، نشرت منظمة العفو الدولية في شهر مايو صوراً لصاروخ توماهوك وقنابل عنقودية أميركية الصنع، وكانت بعض المصادر زعمت بأن تلك الأسلحة استـُخدمت في هجوم بطائرة بدون طيار في شهر ديسمبر، مما أدى إلى قتل العشرات من المدنيين.
وكان هجوم منحوس بطائرة من دون طيار في مايو قد أظهر عملياً المهالك التي تتسبب بها مكافحة الإرهاب المدارة عن بعد. فبدلاً من ضرب قيادة القاعدة في محافظة مارب، قتلت الضربة بالخطأ مسؤول ووسيط محلي بارز، الشيخ جابر الشبواني، بالإضافة إلى مرافقيه.
وقد ردت قبيلة الشبواني بإلقاء الحواجز على الطرقات وقطع الكهرباء وتفجير أنابيب النفط. ويقال بأن أسرة الشيخ الراحل قد قبلت 200 بندق آلي كلاشينكوف وخمسة ملايين ريال كتعويض من الرئيس علي عبد الله صالح، غير أن مثل هذه التعويضات السخية لا يمكنها أن تستعيد كلياً مصداقية الحكومة.
على خلفية النشاط الحركي الراهن، تقوم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بتدشين استراتيجية تنموية جديدة موجهة للمجتمع الهدف منها خلق فرص عمل وتحسين مستوى الخدمات وتشجيع الحكم المحلي الرشيد.
وقد رفضت عدة منظمات غربية غير حكومية العمل كشركاء للوكالة الأميركية بدافع الخوف من التعرض للشبهة بالعمل وفق الأجندة السياسية لأميركا ومع ذلك، بحسب أحد القيادات القبلية، فإن تدفق الموارد مباشرةً للمجتمعات المحلية أمر مرحب به. وقد قال لي، أثناء إحدى الزيارات البحثية إلى صنعاء مؤخراً: 'لو كنت أعلم بأن الأميركيين لديهم أجندة سرية، لما أبديت الاستعداد في التعاون، لكنني لا أرى أي مؤامرة في ذلك. إن أهالي المنطقة يريدون مستوى أفضل في الموارد المائية والرعاية الصحية والمزيد من المدارس. لا أحد يريد أن يرى القاعدة تحصل على موطئ قدم.'
لم تـُثبت بعد جدوى نتائج المبادرات المماثلة (لكسب القلوب والعقول) في أفغانستان؛ ما تزال البراهين التي تؤيد العلاقة المفترضة بين المساعدة والاستقرار نادرة. في اليمن، ما تزال آلية الوكالة الأميركية الموجهة للمجتمع محل جدل، لأنها تتجاهل الجهود الأخيرة للتخلص من الفساد وتشجيع الحكم الرشيد في مؤسسات الدولة المركزية. ومع ذلك، فإن مؤيدي التدخلات العامة يجادلون بأن مثل دعم أجندة رسمية لبناء الدولة في حين ما يزال الاقتصاد يسير نحو الأسفل كمثل الجري على الرمال.
ما عليك إلا أن تدفع:
بعد ستة أشهر من العرض الذي قدمته كلينتون لدعم تشكيل أصدقاء اليمن، ما يزال الاقتصاد يمثل أولوية بدون منافس. لم تحقق الحكومة سوى إنجاز جزئي في إصلاحات الاقتصاد الكلي، عن طريق الإعلان عن تخفيضين صغيرين في مبالغ الدعم للمنتجات البترولية التي تأخذ مقدار كبير من اعتمادات الموازنة السنوية. يبدو أن المحادثات للموافقة على برنامج جديد لصندوق النقد الدولي - مشروط بتخفيضات مستقبلية في مبالغ دعم الديزل واستحداث ضريبة مبيعات عامة - قد تأجلت، لكن الكثيرين في صندوق النقد الدولي أوصوا بأن الإصلاحات سيكون من الواجب تنفيذها على أية حال، إذا ما أراد الوزراء وضع الاقتصاد على أساس أفضل على المدى الطويل.
يرفض المانحون الأجانب تقديم دعم غير مشروط للموازنة، ولكن في حال استمر تدهور القوة الشرائية للريال فإنهم سيواجهون خيار صعب. يقول دبلوماسي في صنعاء 'في أسوأ الظروف، قد نضطر للدفع كي يبقى لدى البلد ما يكفيه من النقد.'
ما يزال البلد في عجز مالي مقارنةً لم يحتاجه، في ظل وجود إعاقة في نمو الأطفال تـُقدر من بين أسوأ المعدلات في العالم إلى جانب سوء حاد في التغذية يزداد بنفس مستوى الارتفاع في تكاليف المعيشة. ويتوقع المتخصصون في مجال الإغاثة بوجود حاجة لمزيد من المساعدات الإنسانية ويدعون الجهات المانحة لإعادة توزيع حصص المخصصات المتوفرة للطوارئ.
على الرغم من أن الأمم المتحدة في مقدمة المنادين لزيادة مبالغ الدعم الإنساني، إلا أن الاستجابة الدولية لمناشدتها الأخيرة أتت قابضة للصدر وقد بدأت المنظمة الأممية تتعرض للنقد جراء الفشل في تولي دور سياسي رائد بمزيد من الفاعلية. ومع عدم توفر قدر كبير من الموارد الإضافية، ما تزال الأمم المتحدة قادرة على المساعدة في تحديد المشكلة إلى جانب المساعدة في التصورات الاستراتيجية والنسبية.
من المقرر أن يلتقي أصدقاء اليمن للمرة الثانية في نيويورك خلال شهر سبتمبر، وحينها ستقوم فرق العمل المختصة بالاقتصاد وسيادة القانون بتقديم التوصيات.
إن اجتماع أصدقاء اليمن في مقر الجمعية العمومية للأمم المتحدة سيعطيهم الفرصة لتعزيز تركيزهم على الآلية الشاملة التي وافقوا عليها بالإجماع في لندن قبل ستة أشهر. كما أن النجاح في إنهاء المفاوضات الخاصة باستكمال برنامج صندوق النقد الدولي من شأنه أن يـُظهر مدى التزام البلد بالشراكة الحقيقية مع المانحين.
من دون إحراز إنجاز فعلي في الإصلاحات الخاصة بالحكم الرشيد والاقتصاد، فلا مناص من وجود مخاوف أمنية عصيبة ستعمل على توجيه الأجندة. ومع ذلك، يجب على واضعي الخطط في الجيش الأميركي إجراء مفاوضات حول مصير العولقي والخوض في التفاصيل أكثر بدلاً من العناوين الرئيسية، والحد من ردود الفعل العنيفة جراء التدخل الناشط، والتركيز على منع تكرار إخفاقات الاستخبارات المحلية التي أتاحت المجال لحدوث محاولة هجوم دترويت.
*نقلا عن موقع تشاثام هاوس البريطاني :