في اوائل نيسان (ابريل) عام 1989 سافرت الى القاهرة من اجل الاعداد لتوزيع صحيفة “القدس العربي”، التي تشرفت برئاسة تحريرها، وفتح مكتب لها، وكانت وجهتي الاولى مكتب “الاستاذ” محمد حسنين هيكل لاتشاور معه في الامر، والاستماع الى نصائحه، والاستفادة من خبراته السياسية والمهنية.
بعد التحية والسلام، اخرجت من حقيبتي عددا تجريبيا من الصحيفة، وكان من 12 صفحة بالابيض والاسود، فالتقطه بلامبالاة، وتصفحه في ثوان معدودة، والتفت الي وقال “ايه ده.. فين الانتفاضة.. فين المقاومة.. فين فلسطين؟.. ده مثل اي “جورنال” تاني”.
ابتلعت ريقي من شدة الصدمة والحرج، فكنت اعتقد انني احمل نموذجا لصحيفة مختلفه عما عداها، فالمثل العربي يقول “القرد في عين امه غزال”، ولكن كلام “الاستاذ” صدمني و”ارستقراطيته” الصحافية اشعرتني بأن مولودي الجديد قردا وليس غزالا، وغادرت مكتبه منكسرا، وتعثرت قدماي بسجاد مكتبه الفاخر، وعلمت لاحقا انه هو الذي اقترح فكرة اصدار هذه الصحيفة في اجتماع ضمه مع الشاعر الكبير محمود درويش على الرئيس ياسر عرفات وغضب لانه لم يتم ابلاغه بتنفيذ المشروع في حينه وتكليفه بالاشراف عليه.
صحيح ان العدد التجريبي الاول كان بائسا طباعيا ومهنيا، فقد كانت الميزانية محدودة، والمنافسون في لندن في حينها (الحياة والشرق الاوسط) ناطحات سحاب عملاقة باذخة، شكلا وضمونا وانفاقا، وكل طموحي كان نصب خيمة، او بيت شَعر (بفتح الشين) بينهما، ولكن ردة فعل “الاستاذ” احبطتني، وانا كنت وما زلت اعتبره قامة عليا في الصحافة، بل الاعلى.. ولم انتظر منه الا كلمة تشجيع لشاب (كنت في الثلاثينات) ينضح حماسة وطموحا، ولكنه بخل علي بها، وكان صارما حاسما، وغير مجامل على الاطلاق.
انتقلت من مكتبه المطل على النيل الى شقة “قامة” اخرى هو الاستاذ احمد بهاء الدين في منطقة المساحة بالدقي، واستقبلني استقبالا حارا حميما، وتصفح الصحيفة بتأن، وطالع صفحاتها جميعا، وبعد اكثر من عشرين دقيقة التفت الي وقال “الجرنال ده عايز يقول حاجة جديدة.. وسيكون له شأن في عالم الصحافة”.
فانفردت اساريري، وزالت حالة الاكتئاب التي خرجت بها من مكتب “الاستاذ” الاكبر.. واستمرت علاقتي مع الاستاذ بهاء رحمه الله حتى وفاته في احد مستشفيات لندن، وزارني عدة مرات في مقر الصحيفة المتواضع، ورأس في احد المرات اجتماع تحريرها.
***
قاهرة المعز اغلقت ابوابها في وجهي، مثل عواصم عربية اخرى بسبب موقفنا من حرب غزو الكويت، واحتللنا مكانة بارزة في قمة القوائم السوداء في مطارها وعدة عواصم عربية اخرى، فانقطعت الصلة مع الاستاذ هيكل، الا ان اعادها الصديق العزيز محمود درويش وجمعنا في احد مطاعم لندن، وتواصلت اللقاءات بعدها.
الاستاذ هيكل بدأ يتابع صحيفتنا، ولكنه لم يظهر اعجابه بها الا متأخرا في حفل غداء بدعوة من احد الاصدقاء ضم العديد من زملاء المهنة في صحافة المهجر، وصحيفة “الحياة” على وجه التحديد، واعتبرها، اي صحيفة “القدس العربي” صحيفة “رأي”، وهذا هو المستقبل حسب رأيه، ولكنه لم يبخل على الزميله الاولى بالاطراء ايضا، وكانت تستحق ذلك.
الاستاذ هيكل كان ارستقراطيا ليس في الصحافة فقط، وانما في حياته الخاصة، فكان يتردد على مصايف الامراء والاثرياء في جزيرة سردينيا الايطالية رغم ميوله الاشتراكية، وكان يحرص ان تكون جميع لقاءته واجتماعاته في لندن في فندق كلاريدجز، اكثر فنادقها عراقة وفخامة، ولم يشاركه هذا العشق الا العاهل الاردني الملك حسين، وربما ملوك وامراء آخرون لا اعرفهم، رغم انه لم يكن يقيم في الفندق نفسه، وانما في شقة قريبة.
في احد لقاءاتنا في بهو الفندق نفسه وقد تشعب الحديث وطال، وكان بالمناسبة يسجل بعض الافكار والآراء في دفتر مذكرات صغير اذا راقت له، واحتوت معلومة مهمة، التفت الي وقال انظر الى تلك الطاولة في المطعم، انهم اسرتي، زوجتي واولادي يعدون لي مفاجأة بمناسبة عيد ميلادي (الخامس والسبعين)، على ما اعتقد، ولكنني افسدتها عليهم بالحضور قبلهم للقائك في المكان نفسه، ودعاني للانضمام الى الحفل لكني اعتذرت رغم اصراره.
في احد لقاءاتنا في احد مطاعم لندن اثناء حادثة الغبار البركاني، تناولنا احداث المنطقة، وقد فاجأنا جميعا بالقول بأنه يتوقع زلزالا كبيرا في مصر، وان ايام الرئيس مبارك باتت معدودة، واكد ان المشير محمد حسين طنطاوي سيلعب دورا كبيرا في هذا الزلزال، تماما مثلما مسك الحكم عندما انهار الرئيس مبارك وهو يلقي خطابه امام مجلس الشعب، واكد مرة اخرى ان المؤسسة العسكرية لن تسمح مطلقا بالتوريث، وتولي جمال مبارك الحكم، وقد صدقت كل، او معظم توقعاته.
من حرصي عليه، ولسذاجتي، كان يشعر بالملل لتأخره في العودة الى مصر بسبب ذلك الغبار الذي عطل حركة الطيران لاكثر من اسبوع، عرضت عليه خدماتي في حجز مكان له في اليوم الاول لعودة الطيران، وبعد تمنع منه، واصرار مني، قال لي ان اولاده سيرسلون له طائرة خاصة فاسقط في يدي.
اسغربت ان لا يشارك الرئيس عبد الفتاح السيسي في تشييع جثمانه، فقد اعتقدت ان العلاقة بينهما كانت قوية، لانني عندما التقيته في بيروت في بيت احد الاصدقاء المشتركين في كانون الاول (ديسمبر) عام 2014، حيث كنت ازورها لتوقيع كتابي عن “الدولة الاسلامية” في معرض بيروت الدولي للكتاب، قال انه التقى الفريق اول عبد الفتاح السيسي قبل اربعة ايام من حضوره لبيروت لاكثر من خمس ساعات، واكد انه لن يخلع البزة العسكرية، ولن يترشح للرئاسة، ولم يكن مصيبا هذه المرة، مما يؤكد ان المشير السيسي لم يكن يثق به، ويطلعه على اسراره مثلما يعتقد الكثيرون.
هيكل لم يكن مطلقا من المؤيدين لاي تقارب بين مصر والسعودية، واثناء زيارة اخرى لبيروت التقى السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، وحمل رسائل من القيادة المصرية الى القيادة الايرانية وبالعكس، بتكليف من السيد نصر الله، وحقق هذا الدور نجاحا ملموسا.
كان شغوفا بمعرفة اسباب مغادرتي لـ”القدس العربي” وتواعدنا على اللقاء في فندق فينيسيا حيث يقيم، ولكنني اعتذرت تحت ذريعة ظرف طاريء على امل اللقاء في لندن، ولم يقبل اعتذاري، وكان محقا في وصفه بأنه هروب، فلم اكن اريد الحديث في هذا الموضع، كعادتي دائما في كل صحيفة اغادرها، وهي قليلة العدد على اي حال.
واذا كانت تنبؤاته قد اصابت في مسألة حدوث زلزال سياسي في مصر، والدور المستقبلي للمشير طنطاوي وزير الدفاع حينها، فان نظريته حول قيام مجموعة صربية بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وليس “القاعدة” لم تكن كذلك، رغم اصراره على دقتها حتى وفاته.
كان رجلا يحمل كبرياء وعزة نفس غير مسبوقين، يضع نفسه في مقام الملوك والرؤساء، ان لم يكن اعلى، لا ينحني لاحد، يعتد بنفسه وتاريخه، ولا يتواضع الا في حالة واحدة، وهي وصف نفسه بأنه “جورنالجي” ونقطة على السطر، وهذا فخر وتقدير كبيران لمهنة الصحافة.
في ايامه الاخيرة ضعف سمعه، ولكنه كان يرفض وضع سماعات تعدّل هذا الضعف، وكان الحديث معه صراخا يسمعه من يجلس على بعد كيلومتر، فلم يكن يريد ان يظهر في مظهر الضعيف، ولم يكن غريبا عليه ان يرفض ان يزوره اي احد وهو على سرير المرض، مهما كانت مكانتهم عنده.
الراحل محمد حسنين هيكل كان عميدا للصحافة العربية بلا منازع، رجل قيّم ومباديء، يؤمن بالعمق العربي لمصر، وتعرض للاعتقال والسجن بسبب معارضته الشرسة لاتفاقات كامب ديفيد، وبعد ذلك اتفاقات اوسلو، ووثق ذلك في كتب حظيت بشعبية واسعة.
كان انيقا في ملبسه واسلوبه، ادخل المعلومة والخبر والرأي، فجاءت مقالاته “كوكتيلا” متميزا في الصحافة العربية، انتظرها خصومه قبل مريديه، وما اقل الاوائل واكثر الاواخر.
***
اتهمه البعض بانه كان “بوقا” للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ولا اعتقد ان هذه نقيصة، فقد احب الرجل ورأى فيه زعيما عربيا، احتل قلوب الغالبية الساحقة من العرب، وانتصر لقضية فلسطين والعروبة ومكافحة الاستعمار، اجتهد واصاب واخطأ ومات فقيرا، اي عبد الناصر)، لم يترك ثروة ولا قصورا، وابدع الاستاذ هيكل عندما تحدث مرة عن سفره معه، (اي عبد الناصر) على ظهر يخت المحروسة الذي كان للملك فاروق، وقال انه ورفاقه تناولوا طعام اليخت الفرنسي الفاخر بينما اكتفى الرئيس جمال عبد الناصر بوجبته المفضلة الجبنة المصرية البيضاء المالحة مع شرائح الطماطم.
ربما ينتقده البعض ويتطاول عليه اخرون، لانه كان قريبا من الرئيس السيسي ونظامه، وهذا انتقاد صحيح، فالرجل لم يكن اي ود للاخوان المسلمين في اي يوم من الايام، ومن الطبيعي ان يكون حاله كذلك مع حكمهم، ولكن يمكن ان يجادل احد بأنه كان مع مصر العربية، يقف في خندقها ويجاهر بذلك، وهذا حقه واختياره، الذي يجب احترامه، حتى لو عارضه البعض واختلفوا معه.
لم ابالغ مطلقا عندما وصفته بأنه ينتمي الى زمن العمالقة مثل نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، ويوسف ادريس، وام كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وطه حسين، وكل رموز الزمن المصري الجميل، زمن الكرامة والعزة والشموخ.
طلبت مني صحيفة “الشروق” ان اكتب مقالا بمناسبة عيد ميلاده التسعين، فلم اتردد، وانا الذي لا اكتب في صحف غير صحيفتي الا في حالات نادرة، لاعتقادي انه من اوعز بذلك، وكنت اتوقع ان اكرر المحاولة في عيد ميلاده الخامس والتسعين، ولكن لم يمهله القدر، وها انا اكتب تأبينا له.
رحم الله الاستاذ هيكل..
PrintGoogleTwitterFacebook1K+