دأب البردوني الخالد على إضاءة تاريخنا الملتبس وعديد قضايا تاريخية شائكة بطريقته المعهودة في المسئولية وإشاراته ثاقبة الدلالات.. وبما أن مشاريع تمزيق النسيج الاجتماعي والهوية الوطنية الجامعة هي وباء عديد بلدان في المنطقة - اليمن خصوصاً - فإن استحضار البردوني في هذا السياق يعني عقلنة الطريق الخطأ، واتباع السياسة والتعايش لا اتباع الخراب وقيم الإقصاء .
والثابت أن ولاء البردوني لروح الشعب ككتلة منصهرة في مبدأ المواطنة والتمدن تحققاً لطموحاته بالكرامة والقرار والتسامح والإبداع المجتمعي والمشاركة الديمقراطية.. الخ، ضداً من استدامة العنف وتنمية العنف المضاد اللذان يقودان إلى الإصرار البدائي الرهيب على زوال الدولة وتفتيت المجتمع.
أدناه ما اخترناه للبردوني من كتابه القيّم «قضايا يمنية» مقدرين قياساته واستنباطاته وهو الشخصية المثلى ذات الإجماع، آملين تجاوز أزماتنا التاريخية باتجاه مستقبل فذ وخلاق يخلو من موبقات الماضي.. الماضي البائد الذي ينبغي أن نتوحد في مسعى التحرر من كراهياته، بحيث لا نستمر كرهائن لشناعاته المؤسفة التي لا تعرف التآزر والتآخي والحب بين كل المواطنين بلا استثناء.
يقول الأستاذ عبدالله البردوني:
وابتدأ الإمام الهادي يقاتل القبيلة المتمردة بالقبيلة الطيعة، وكان أتباع الهادي يشكلون عدداً كبيراً من «خولان الشام وصعدة ويام والوافدين من طبرستان حيث كان الحكم هناك زيدياً»، كما كان « الدعام بن إبراهيم»يشكل عدداً كبيراً من همدان وما حولها في وجه الهادي، وكان اليعفريون يشكلون جيشاً بنفس القوة من«كوكبان وشبام» وكان علي بن الفضل في جنوب الشمال يقاتل بأتباعه مذهبياً لا نسبياً، كسائر الولاة من الباطنية، وكان القتال بنفس السلاح خيولاً وسيوفاً ورماحاً، والقوة البشرية أحسم عامل لأي موقف، وقد تمادت الحروب في هذه المناطق أطول الفترات لغلبة ميول العشائر الشمالية إلى الحرب أينما شبت أكثر من ميولها إلى حرث الأرض وزراعتها كالمناطق الوسطى التي تؤثر السلام لكي تعمل آمنة.
غير أن تلك العشائر الحربية كانت تحقق من الغنائم والمصالح أكثر مما تحقق بالمحراث والمنجل، فكان السيف: المزارع والحصاد، وكان الإمام أو الملك أو السلطان أعجز من أن يكون جيشاً منظماً لحسم الموقف، لأنه سوف يواجه نفس الطبيعة العسكرية، فأدى التشابه بين أتباع الإمام المَبايَع وبين أتباع المحافظين على السلطة إلى طول الاشتباك بدون جدوى، وبعد موت الهادي تمت لابنه البيعة من الأتباع وابتدأ نفس الميدان الدموي، واستمرت نفس الظروف الحربية على نفس ذلك الشكل، حتى جاء الصليحيون آخر القرن العاشر فأضافوا جبهة ثالثة، فتمادت الحروب بين الصليحيين والعلويين من جهة، وبين النجاحيين والصليحيين من جهة أخرى (..) وبعد انتهاء الصليحيين والنجاحيين بسقوط الخلافتين المتعارضتين الفاطمية والعباسية في بغداد والقاهرة، قامت الزعامات اليمنية المتوالية على نفس الطرائق، بين المتشبث والطامع، وبين الإمام القائم وبين الإمام الذي يريد القيام، وبين دولة بني رسول حليفة الأيوبيين ومحاربة الأئمة بالشمال.
ولعل أكثر الحروب تنظيماً هي حروب الطاهريين والعلويين، لأنها لم تعد بين قبيلة وقبيلة في منطقة واحدة، وإنما بين المناطق الوسطى والشمالية، وعندما انتهت هذه الفترة بوصول المماليك المصريين لصد البرتغاليين اختلف جوهر الحرب وأرديتها: فكانت بين اليمنيين والمماليك والبرتغال، إلا أن خروج المماليك كان سبباً في دخول الأتراك.. وقد استقبل اليمنيون الأسلحة التركية بدهشة أشد من المدافع البرتغالية (..) فلم تكد العساكر التركية تستقر حتى ابتدع اليمنيون أسلوب العصابات والمباغتات، وبرغم نظام الجيش التركي وتكتيكه أقعده العجز عن التصرف، فاعتمد على تأييد إمام في وجه إمام، أو تسليط رئيس عشيرة على رئيس عشيرة أخرى (..) حتى اضطر الغزو الأول إلى الرحيل مفقود الانضباط كثير الخسائر (..) إلا أن عهد الأتراك وما سبقه من عهود انسحبت على مرحلة الاستقلال الأول نتيجة الطامحين إلى السلطة وكثرة الخارجين على من وصل إليها ، وكان للإمام القائم قبيلة تحميه، ولكل إمام خارج قبيلة تدفعه، وكان كل واحد يستصفي مجموعة كبيرة أو صغيرة من رؤساء العشائر، يدعون عشائرهم إلى نصرته(..) ومع أن الغالبية الكبرى أميل إلى العافية والاستقرار إلا أنهم كانوا يمارسون الحروب مرغمين بقدرة التحريض أو بقدرة الترغيب، أو تشعلها قلة من المتمصلحين فتدخلها الكثرة إما من قبيل العدوى أو من قبيل الدفاع عن النفس أو من جهة تحقيق الوجود، وكان العامل الاقتصادي يسود كل هذه العوامل، فتندفع الجماعات كلما لوحت شعلة من جبل أو دقت طبول في وادٍ حسب التقاليد الحربية في الأرياف، لأن الفوضى لم تكن طبيعة اجتماعية في اليمنيين، ولم تكن الحرب غير المبدئية في دخائل النفوس، إلا أن الشخصيات الاجتماعية والمنتفعة كانت تتقن أساليب التهييج أو تفاجئ بافتعال الحرب، لأن المنتفعين بتعدد الأئمة وتسليط بعضهم على بعض كانوا مجموعات صغيرة من كل قبيلة (..) وبفعل هؤلاء المحرضين في كل زمن، تراق الدماء بدون هدف جماعي (..) ولقد جاء الأتراك في الحملة الثانية بنفس أساليب الحملة الأولى (..) وبدلاً من أن يكونوا خلاصاً من صراع الأئمة كما أمّل اليمنيون كانوا أشد من الحروب على الإمامة.. صحيح انه كان يمتاز والٍ عن والٍ، إلا أن مساعي الممتاز الثاني كانت تسقط في ركام المفسد الأول. .”
fathi_nasr@hotmail.com