|
|
|
|
|
الكذب الأسود والنوايا السيئة
بقلم/ إستاذ/عبده محمد الجندي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 25 يوماً الإثنين 26 إبريل-نيسان 2010 04:07 م
هناك من يكذبون كذبات بيضاء بما لديهم من حسن النية بدافع الحرص على حماية من يكذبون عليهم من العواقب الوخيمة للصدمات الناتجة عن ردود فعلهم الغاضبة والحزينة من جراء ما يحمله الخبر من معلومات ذات صلة بموت قريب أو حبيب وقد تكون ذات صلة بوقوع كارثة ناتجة عن خسارة مادية أو معنوية فادحة ذات علاقة بالمصالح الذاتية أو ذات صلة بالمصالح الوطنية.
وهذا الكذب هو ما يطلق عليه بالكذب الأبيض المعبر عن حسن النية من الكاذب أو الناقل بدافع الحرص على المكذوب عليه أو المنقول إليه وحمايته من الأضرار المحتملة أو الانعكاسات السلبية للصدمات النفسية, لأن درجة الاستعداد عند المتلقين للكذب تختلف من شخص إلى آخر سلباً وإيجاباً حسب القدرات المتفاوتة عند الأشخاص على نحو يستوجب توخي الحذر والدقة في توصيل المعلومة أو الخبر.
وإذا كانت موضوعات الكذب الأبيض المعبرة عن حسن النية والمسئولية كثيرة ومتعددة الموضوعات في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية المادية والمعنوية, فإن هذه الموضوعات المتداخلة إلى درجة مستحيلة التحديد من حيث التعقيد والتركيب والتعدد والتنوع فإن ما ينطبق على الحلال وحسن النية والحرص والمسئولية من الكذب الصادر بنية حسنة، ينطبق على الكذب الأسود المعبر عن سوء النية من حيث الحرام والتعقيد والتركيب ومن حيث التعدد والتنوع، ومن حيث عدم الحرص وسوء النية, ومن حيث السلبيات وما هو ضار ولا ينتج عنه سوى التدمير والهدم وتزييف الحقائق وعدم الشعور بالأمانة والمسئولية.
إن الكذب السياسي الأسود المعبر عن سوء النية هو ما سوف نتناوله في موضوع اليوم الذي نقصد به آخر ما وصل إليه الحوار بين الأحزاب والتنظيمات السياسية وبين السياسيين الذين يتمترسون في دعاياتهم وما يصدر عنهم من الخطابات والبيانات والمواقف المتناقضة إلى التضاد فيما تدعيه من حرص على المصلحة الوطنية ومن تظاهر مبالغ فيه في العداء للفساد إلى حد الاستعداد النظري للتضحية بما هو ذاتي من أجل الانتصار لما هو موضوعي رغم ما ينطوي عليه من الزيف والكذب والتضاد بين الظاهر وبين الباطن.
لأن الكذاب وسيىء النية يقدم نفسه للرأي العام كذباً وزوراً وبهتاناً بأنه المخلص الوحيد والمنقذ الوحيد والصادق الوحيد والمؤمن الوحيد والأمين الوحيد رغم أنه يعرف أنه يكذب على الآخرين ويكذب على أصدقائه وأعدائه وعلى نفسه في وقت واحد؛ لذلك فهو يخدع نفسه وهو يعلم أنه لا يرضي نفسه ولا يرضي أحداً قط من الذين يعلم أنه يخدعهم بما يصدر عنه من الكذب الأسود المعبر عن سوء النية الذي يتنافى مع كل ما له علاقة بالصدق وبالإيمان وبالأمانة وبالحقيقة وبالمسئولية وبالإصلاح والإخلاص والنزاهة والاستقامة بحكم ما ينطوي عليه من الكذب الأسود المحرم والمجرم بقوانين العقل ونواميس الدين، لأنه يصدر عن رغبة مقصودة في الخداع والتكتيك والمناورة وتزييف الوعي والحق والعدل، لا معنى له سوى العدوان على حقوق الآخرين وحرياتهم وما يتطلعون إليه من الانتصار لكفاياتهم على حاجاتهم ولتقدمهم على تخلفهم، ولعلمهم على جهلهم إلى غير ذلك من الإفراط والتفريط الذي لا يتفق مع أبسط المقومات المبدئية والقيمية والأخلاقية ذات المصداقية والموضوعية الهادفة إلى ترسيخ الثقة في سلسلة من القواسم المشتركة والمتوازنة والمتطابقة الظاهر والباطن.
كيف لا يكون الكذب السياسي الأسود هو الأسوأ من سوء النية بما ينطوي عليه من رغبة كيدية في التلاعب بما لدى الرأي العام من العواطف مقرونة برغبة جامحة في الاستهبال والاستغفال، ولا قيود ولا فواصل ولا حدود من المصداقية والموضوعية التي تستوجب الانتقاص المسئول والمقبول من منجزات الآخرين ومن جهودهم ولو بالحدود الدنيا للظلم والمبالغة في الجحود ومن الفجور وفي الخصومة ونكران الجميل وسوء النية المعبر عن الكذب الأسود الذي يتدرج في نطاق إشباع ما لديه من حب الأنا وطغيان الأنانية بلا خوف من المجتمع ولا خوف من الله ولا خوف من الهيئة الناخبة الواعية والمدركة للغث من السمين.
لا أبالغ يا أعزائنا السياسيين الذين تؤكدون كل يوم أنكم تسيئون إلى الحوار هذه الكلمة النبيلة والفكرة المستنيرة والهدف الموجب لتغلب التفاؤل والأمل على التشاؤم والإحباط في سياق الانتصار للحقيقة.
فها أنتم تفرطون في الكذب الأسود عبر رحلة طويلة في سفر الحوار الذي لا يكاد يغادر الأقوال إلى الأفعال والكذب الأسود إلى الكذب الأبيض وسوء النية إلى حسن النية بحكم الفترة الطويلة التي تعددت فيها الاتفاقات وتناقضت وفتحت المجال لسلسلة من التناقضات التي تجعل آخر اتفاق يلغي ما قبله من اتفاقات مكررة الموضوعات والوسائل والغايات بصورة يستدل منها على تراكم الشكوك وعلى رغبة في التشكيك لا بداية لها ولا نهاية تنقض يوم الأحد ما اتفقت عليه يوم السبت، وتنقض يوم الثلاثاء ما وقعت عليه يوم الاثنين، وتلغي يوم الخميس ما تحاورت عليه الأربعاء، ثم تعود وتقول بأن ما كان يسمى حواراً بالأمس قد أصبح يطلق عليه اليوم تشاوراً، وما قيل بأنه تشاور يجب أن يقال عليه بعد ذلك تواصل في سلسلة من التناقضات والتشوهات الهابطة من الأعلى إلى الأسفل ومن التقدم إلى التخلف.
ومعنى ذلك أن الحوار يتحول بعد الاتفاق عليه إلى ما هو أصغر منه من التشاور، وهذا الذي يلي الحوار يحمل ما هو أصغر منه من التواصل، المهم أن الأهم يفسح المجال لما بعده من المهم، والمهم يتقدم على ما قبله من الأهم.. أما كانت المهمة الأولى والأخيرة للسياسة كالمهمة الأولى والأخيرة للصحافة مجرد كلام ينقض ما بعده وما قبله وينقض ظاهر باطنه في تداعيات هدامة يمتزج بها العمل السياسي بالعمل الإعلامي في معركة غير ديمقراطية ذات ظاهر حواري وباطن شمولي لا يعترف ولا يلتزم بما ينتهي إليه الحوار من اتفاقات عمومية تحتاج إلى اتفاقات تفصيلية تبين ما خلف وما بعد النقاط من ظاهر وباطن نقرأ الصدق فيه بما ينطوي عليه من العبارات والألفاظ النظرية دون توافق على ما تعنيه الكلمات الإنشائية والنظرية من لغة فضفاضة تفتقد للمعاني من القانونية والعلمية والعملية المفيدة؛ لأنها تحتكم للمنطق الصوري عبارة عن شكل ولكن بلا مضمون ولا تحتكم على الإطلاق لما قبله وما بعده من المنطق العلمي كما هو طبع الترويج للدعاية التي تقدم السلعة بما تنطوي عليه من مبالغة في تضخيم المنافع العديدة التي تصنع القبة من الحبة ولكن مجرد إعلانات مدفوعة الثمن تقاس بما تنطوي عليه من عائد مادي للمعلنين الذين يتوسطون بين المستهلكين وبين الملاك بما يحصلون عليه من العمولات المالية؛ إلا أن المنافع والفوائد هي بالمحصلة قليلة لا ترتقي إلى مستوى ماهو مكتوب ومنطوق ومسموع من الفوائد المضخمة الجاذبة للمستهلكين في أسواق البيع وأسواق الشراء النهائية غير القابلة للشور والقول في عقودها المغلقة التي تنتهي المسئولية فيها بمجرد وقوع البيع والشراء وبمجرد تحولها من البضاعة إلى نقد يحتوي على فائض للقيمة التي بمقدور المشتري تحويلها إلى بضاعة.. إلخ.
إنها لفاجعة مؤلمة للشعب أن يتحول الحوار بين من هم في الحكم ومن هم في المعارضة إلى نوع من الكذب الأسود المعبر عن سوء النية الذي لا مجال فيه للصدق الموجب بما نصت عليه الاتفاقات من الوعود والعهود ولما استهدفت الكلمات والنصوص المكتوبة من الوقائع والمنافع الديمقراطية.
هذا الكذب الأسود الذي يشبه القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد لا تقابله ضوابط ودوافع من العقوبات الكابحة والرادعة للمتحاورين والمتشاورين والمتواصلين الذين يعلمون سلفاً أنهم يمارسون الوصاية على الديمقراطية مقرونة بنوايا سيئة تجاه الشعب ممثلاً بهيئته الناخبة التي لم تعد تهتم بهذا النوع من المجادلات والحكايات السوداوية المستندة إلى ما هو سيئ ومقزز من النوايا السياسية الفوضوية الهادفة إلى التدمير تحت أبواق من الدعاية اتفقت الأحزاب اختلفت الأحزاب.. تحاورت الأحزاب، لم تتحاور الأحزاب.. وقعت بالأمس على وثيقة اتفاق، لم تتحاور على ما اتفقت عليه بالأمس من النقاط.. وأصبحت اليوم بحاجة إلى اتفاق تفسيري للمبادىء التي وقعت عليها بالأمس... يفتح المجال لآلية حوار جديدة يحتاج إلى اتفاق جديد وأجواء هادئة تستوجب الحوار بأعصاب مثلجة لا مجال فيها للانفعالات والمنغصات حول تشكيل لجنة الحوار وكيف يتم تشكيل هذه اللجنة.. وكيف يتم رئاسة وإدارة هذه اللجنة، من أين يكون قوامها، وكيف يكون قوامها، وكم يكون القوام، المؤتمر وحلفاؤه من الذين يتمسكون بالوحدة، والمشترك وشركاؤه والذين يدعون إلى الانفصال وما بينهما من الذين يقفون بالوسط..بين الحلفاء والشركاء، بين أولئك وأولئك نصف وحدويين ونصف انفصاليين الذين يدعون للتراجع عن الوحدة الاندماجية إلى الوحدة الفيدرالية تحت مبرر قطع الطريق على الذين يدعون للانفصال في لعبة لا بداية لها ولا نهاية؟!.
أقول ذلك وأقصد به أن من الكذب الأسود المقرون بسوء النية أن تبحث أحزاب المشترك عن مناخات ملائمة وعن أجواء حوارية هادئة وخالية من المشاكل والهموم الاستفزازية المثيرة للقلق وما ينطوي عليه من الأفعال المستفزة وردود الأفعال المستفزة التي تساويها في القوة وتعاكسها في الاتجاه، تطالب الحكومة بعدم استخدام الصحافة الرسمية للدفاع عما لديها من السياسات والخطط والبرامج الموضوعة في قفص الاتهام والمحاكمة، متناسية أن من حق الحكومة أن تدافع عن منجزاتها وعما تطبقه من الخطط والبرامج والحقائق التي تصبح هدفاً لأحزاب المعارضة وما تروج له صحافتها المسموعة والمقروءة من اتهامات يختلط فيها الموضوعي بالدعائي ويختلط فيها الصدق بالكذب وحسن النية بسوء النية.. لكي تبقى الصحافة الرسمية ساكتة وصامتة أمام ما تروج له الصحافة الحزبية المعارضة من المكايدات والمزايدات والمناكفات المبنية على الكذب الأسود المعبر عن سوء النية الذي تحرمه كل القوانين والنواميس المستمدة من العقل ومن الشرع ومن المصالح المرسلة للشعوب والأوطان صاحبة المصلحة الحقيقية في التعدد والتنوع والتداول السلمي للسلطة.
أخلص من ذلك إلى القول بأن الصحافة الرسمية هي الوسيلة الوحيدة التي تمكن الحكومة من الدفاع عن نفسها وعما لديها من المؤسسات والأجهزة المدنية والأمنية والعسكرية، وبدون الصحافة الرسمية تصبح حكومة الأغلبية عقيمة وعديمة القدرة على توضيح الحقيقة للرأي العام.
أقول ذلك عن رغبة في معرفة ما يكمن خلف الأكمة من نوايا سيئة يحيكها أولئك الذين لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب، من الانتقائيين الذين يتعمدون إفشال وإحراق كل ما هو جميل وصائب في حياتنا ومنظومتنا السياسية والحزبية وفيما نتوصل إليه من الحوارات والمعالجات والحلول والاتفاقات؛ لأنهم يعانون من عقد نفسية وأمراض سياسية ناتجة عن الشك بالآخرين يدفعهم إلى التقليل من قدراتهم التنافسية والتضخيم من قدرات المنافسين أمام أنفسهم وإلى تضخيم قدراتهم والتقليل من قدرات الآخر أمام الرأي العام مقابل حب الأنا وطغيان الأنانية، وبما يترتب على ذلك من إشكالية تدفعهم إلى الكذب وإظهار الأمور بما فيهم من مركبات النقص ومحاولة إخراجها بأساليب زائفة تدفع كل طرف من الأطراف الحزبية والسياسية إلى التخاصم والمشاكل القاتلة للثقة والأمل بما ينتج عنه من الصراعات والحروب العبثية المدمرة للتعاون والتكامل والتكافل والتفاعل.. على نحو يدمر الوحدة الوطنية، ويفقد التعدد والتنوع معانيهما. |
|
|
|
|
|
|
|