ليس مجرّد رجل دين تقليدي؛ بل من سلالة علم ومعرفة وزهد ونقاوة بلا ادعاء، محمد يحيى عبد المعطي الجنيد كراية إنسانية شموخة وكقطب صوفي ناضج وروح وطنية شهمة ورقيقة لم تتدنّس بالسياسة وأصحاب المشاريع البلهاء والعجفاء، إنه بوعي متجدّد كونه القارئ الذي يعد من طراز رفيع، وهذا أروع ما يثيرني ويبهرني فيه.
إنه القارئ لذخائر عربية وإسلامية متفوقة ورائدة، وهو القارئ أيضاً لإبداعات الكتب الجديدة التي تحفر عميقاً في النص وتملك الرؤية الأخرى الحداثية اللا تقليدية، إنه يقرأ بشكل منهك ويغالب مكابداته ليتضح له السر أكثر.
عرفته رفقة الصديق والزميل العزيز ماجد المذحجي والشاعر عبدالوكيل السروري حين الإعداد لملف خاص لصحيفة «الثقافية» كان ذلك على الأرجح في العام 2003م، عرفت فيه تلك النوعية المتفرّدة من العارفين المنشرحين بصدق وسوية، كان ينثال بلا تكلُّف مطمئناً لزوّاره؛ الدفوق الخفيف المستبصر الذي يرتب ذائقتنا وتوقنا إلى الإنسان، بينما لا يستسيغ القوى العمياء المثقلة بالكراهيات والعنف أبداً.
وحين يدلف أحد الزّوار من بسطاء الحس يبادر إلى حضنه ثم يصمت كعالم له أبعاده الخصوصية، فنفهم قيمة الامتلاء من الداخل واعتبارات الحضور المتداخلة، ليتواصل لاحقاً الحديث بالإفصاح واللا إفصاح، بالنمو في الفراغ وبالتحليق الرشيق.
ويالنجابة اللحظة وتناسقها في ظل فراسة محمد يحيى عبدالمعطي الجنيد؛ له مفاهيم تقدّمية ومغايرة عن الحركات التي ظهرت بعد الإسلام، كما أن له نزعة لعقلنة الظواهر والأشياء من خلال عاطفة تمارس فعلياً الاستبطان وأحواله بغريزة واثقة من الإبداع وليس الاتباع.
ومذّاك وأنا أكن له الإجلال والتوقير؛ كونه يريد أن يكون هو ولا يريد أن يستلب العامة سعادتهم في اللا معرفة مثلاً، ذلك أنه يكتوي جرّاء معرفته لو تعلمون، إنه يكتوي ويطهّر الروح من جراحاتها أيضاً، فللروح جراحات لا أهول منها.
وأما في خضم لقاءات عابرة – أحدها وكان مع صديقه الأول فناننا البهي أيوب طارش - فقد كان يتضح لي بلا مسافة تذكر وهو بكامل هيئته الفكرية والصوفية التي لا تتبدّل أو يصيبها تلف المطامع والأهواء والأضواء بكل رداءتها التي لا تبتكر وإنما تكرّر وتشوّه وتدلّس.
في السياق ثمّة نغمة شعرية جنيدية فلسفية تفكُّ اللغز الدرامي بين الأفكار والتصوّرات بالتحامية متميزة بين الماضي والمستقبل، وفي كل شأن سيبقى محمد يحيى عبدالمعطي الجنيد متواضعاً سمحاً يكتنز تحت الجبة مسالك طرق الحقيقة الصعبة التي لا يتقنها سوى أصحاب الشجن الضالع في الكشف الأصعب، فحين يتحدّث عن المعنى والدلالة والتأويل والحرية؛ يمكن للمرء أن يفهم أي عقل هو هذا المتنوّر التحليلي والاطلاعي والحقيقي الكثير.
تحيّة لحادي الباهوت الذي يمنح التصوف جماليات خاصة ومثيرة وانسيابية، تحيّة لروح متعافية من التهافتات والعصبويات، الروح المتيقظة جوهرياً، والمتسعة فكرياً وذات الموقف الأخلاقي والتراكم الحضاري اليمني الثري بتواشجاته الشاسعة والأليفة مع الثقافات التراثية والمعاصرة، الروح التي لا تعرف سوى الحب - في تركيبة شعورية مشبعة بأرقى أنواع الجدل والتأمل - والبذل الإشراقي الخصب دائماً.