|
|
|
|
|
الحُروب الاقتصاديّة التي يُشْعِل فتيلها ترامب في عِدَّة جَبَهات دُفْعَةً واحِدة لن تُبْقِ لَهُ أيَّ صَديقٍ غَير إسرائيل..
بقلم/ أستاذ/عبد الباري عطوان
نشر منذ: 6 سنوات و 3 أشهر و 10 أيام الأحد 12 أغسطس-آب 2018 06:39 ص
يُقَدِّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خِدمَةً كَبيرةً لأعدائِه ويَخلِق أزماتٍ كبيرة لحُلفاء بِلادِه، من خِلال مُبالغته في فَرض الحِصارات، وخَوض المعارك الاقتصاديّة على أكثرِ من جَبهةٍ في الوَقتِ نَفسِه، إذا استمرّت مِثل هَذهِ السِّياسات، فإنّه لن يَجِد له أصدقاءً في العالم غير إسرائيل والمملكة العربيّة السعوديّة.
الرئيس ترامب فَرَض عُقوباتٍ اقتصاديّة على تركيا، وبدأ حِصارًا خانِقًا ضِد إيران، وحَظَر التَّعَامُل على الروبل، العُملة الروسيّة، وشَدَّد العُقوبات على كوريا الشماليّة، ويَستعِد لفَرض رُسومٍ جُمركيّةٍ على الصَّادِرات الصينيّة إلى بِلادِه قد تَصِل إلى 400 مِليار دولار في الأَشهُر المُقبِلة، وأُخرى على نَظيراتِها الأُوروبيّة.
كُل هَذهِ الحِصارات تَقِف خلفها إسرائيل التي باتت صاحِبة النُّفوذ الأكبَر على الرئيس الأمريكي، وتباهَت مَصادِر إسرائيليّة عُليا بأنّ تفاصيلها وضعها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، ودعمها جاريد كوشنر، تلميذه وصِهر الرئيس الأمريكي ومُستشاره الأبرز، مِثلَما أكّد بن كاسبيت، الكاتب الإسرائيلي المُقرَّب مِن المصادر الأمنيّة في مَقالٍ له نشره في مركز “المَصدر” المُتخصِّص في شُؤون مِنطَقة الشرق الأوسط.
***
عندما يَشُن ترامب حَربًا اقتصاديّةً ضِد كُل من روسيا وتركيا وإيران، الدُّول الثَّلاث الأعضاء في مَنظومة “سوتشي” الإقليميّة، فإنّه يُعَزِّز تَماسُك هَذهِ المَنظومة، ويُضيف إليها كُل من الصِّين وباكستان والهِند، الدول التي أعلَنت عدم التزامِها بالعُقوبات الأمريكيّة هذه، وتحدِّيها لأيِّ عُقوباتٍ ضِدّها عِقابًا لها، مِثلَما هَدَّد الرئيس ترامب.
الرئيس ترامب نَجَح حتّى الآن في توحيد أهم وأقوى دولتين إسلاميّتين في الشرق الأوسط ضِدّه، ووضع المَذهبين السُّني والشِّيعي تحت مِظلَّة العَداء والكراهيّة لإدارتِه وبِلادِه، ونحن نتحدّث هُنا عن إيران وتركيا، الأمر الذي سيُصيب خُططه في إقامَة “ناتو سُنّيّ” عَربيّ، على أُسُسسٍ طائفيّةٍ بضَربةٍ شِبه قاضِية.
كان لافِتًا أنّ باكستان في عَهد الرئيس الجديد عمران خان، شَقّت عصا الطَّاعة على الحَليف الأمريكيّ، وأعلنت على لِسان محمد فيصل، المُتحَدِّث باسم وزارة خارجيّتها، أنّها لن تَلتزِم بالعُقوبات الأمريكيّة ضِد إيران، وستُواصِل علاقاتِها التجاريّة معها دون تغيير، وأنّها دولة ذات سِيادة ، وتَرسُم سِياساتِها وِفقًا لمَصالِحها وليس الإملاءات الخارجيّة.
هذا المَوقِف الباكستاني المُفاجِئ يعني أنّ باكستان خرجت من المُعسكَر السعوديّ الخليجيّ، وقرّرت الوقوف في الخَندق الإيراني، في مُواجَهة الرئيس ترامب وإدارته، وسَتُحلِّق بها ماليزيا أيضًا التي انسحَبت من الحِلف العسكري الإسلامي، وكانت خَطواتها الأُولى سَحب قُوّاتها من حرب اليمن، وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أغلقت مَركزًا لمُكافَحة التطرف أقامته السعوديّة في كوالالمبور وحَضر حفل افتتاحِه الملك سلمان بن عبد العزيز أثناء زيارته لماليزيا قبل عام، ولا نَستغرِب إذا ما أقدمت إندونيسيا على الخَطوةِ نَفسِها.
التَّقارُب الباكستانيّ الإيرانيّ سيَنعكِس سَلبًا على المَشروع الأمريكيّ الرَّامي إلى تعزيز الاستقرار في باكستان، والقَضاء على حركة طالبان التي تَخوض حرب عِصابات شَرِسة، لنَسف هذا المَشروع الذي كَلَّف الوِلايات المتحدة وحُلفاءَها في حِلف الناتو أكثر من ألفيّ قتيل وترليونيّ دولار مُنذ التَّدخُّل العَسكريّ عام 2001 وحتّى الآن.
الحِصار لن يُؤَدِّي إلى تركيع ايران وقَصقَصة أذرُعِها العَسكريّة القَويّة في أكثر من دَولةٍ في المِنطَقة، وفرض اتِّفاق نووي جديد ومُعَدَّل، كما أنّه لن يُفَجِّر ثَورةً تُزعزِع استقرار الحُكم في طِهران وتُؤدِّي إلى تغييره، فزمن تغييرات الأنظمة ربّما يكون ذهب إلى غير رجعة، وصُمود سورية بعد سَبع سنوات مِن التَّدخُّلات العَسكريٍة الدمويّة، وإنفاق 70 مليارًا من الدولارات، وضَخ أكثر من 300 ألف مُقاتِل بعد تدريبهم وتَسليحِهم، وحشد تحالف من 70 دولة، هو البِداية والدَّليل في هذا المِضمار، فدُروس ليبيا والعِراق واليَمن وأفغانستان لن تتكَرَّر.
***
أمريكا ليسَت وحدها القُوّة العُظمَى المُسيطِرة على العالم، فهُناك الصِّين وروسيا، ودُوَل نوويّة أُخرى مِثل كوريا الشماليّة وباكستان والهِند، باتت تَقِف في الخندق المُواجِه لهذهِ الغَطرسة الأمريكيّة، وتُعلِن تَمرّدها العَلنيّ على حِصاراتِها، وربّما تسير أوروبا على النَّهج نَفسِه في المُستقَبل القَريب.
إذا تَوحَّد المُثلَّث الروسي الإيراني التركي في جَبهةٍ واحِدةٍ على أرضيّة مُواجَهة الحِصارات الأمريكيّة على الدُّوَل الثَّلاث سَينجح ويُفشِلها فَشَلاً ذَريعًا، ومعها هيبة أمريكا كقُوّة عالميّة كُبرَى، فالعالم يستطيع أن يعيش بُدون الدولار الأمريكي، وبُدون الأسواق والكوكاكولا الأمريكيّة، قد تَكون هَذهِ الحِصارات فألْ خَير، وبِداية صَحوة عالميّة، وبَلوَرة نِظامٍ اقتصاديٍّ جَديد ومُستَقلّ، يَستَنِد إلى سَلَّةٍ من العُملات ليس بَينها العُملَة الأمريكيّة.
ربّما يَعتقِد البعض أنّنا حالِمون ومُتفائِلون أكثَر من اللازم، وهذا اعتقاد في غَير مَحلِّه، لأنّ أمريكا ومن خِلال رئيسها المُتَهوِّر، الذي لا يتَعاطى إلا مع المُتهَوِّرين أمثاله، تُطلِق النَّار على أرْجُلها، وتَحشِد الكراهيّة ضِدّها، ليس في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي فقط، مِثلَما كان عليه الحال في الثَّمانينات والتِّسعينات، وإنّما في العالِم بأسْرِه.
في الماضِي كانت الكراهيّة لأمريكا تَرتَكِز على دَعمِها للكَيان اليهودي في فِلسطين المُحتلَّة، وحُروبِها في العِراق وأفغانستان، الآن أُضيفَت إلى هَذهِ الأسباب حِصاراتِها وحُروبِها الاقتصاديّة التي تُلحِق الضَّرر بأقْرِب حُلفائِها قَبل أعدائِها.
ثَورَة الغضب ضِد أمريكا عالميًّا باتَت قَريبةً، ونَرى عَواصِفها العاتِية تتجمَّع، ولا أحَد يَتنَبَّأ بنتائِجها، وقد تتغيّر أمريكا ونِظامها، قبل حُدوث التَّغيير في تركيا وإيران وروسيا.. واللهُ أعْلَم. |
|
|
|
|
|
|
|