بموافقة مكونات مؤتمر الحوار الوطني، الأربعاء الماضي، على وثيقة القضية الجنوبية، وتوقيعهم عليها، بعد استيعاب ملاحظاتهم عليها في بيان لهيئة الرئاسة، اعتمدته الجلسة العامة كوثيقة، يكون المؤتمر قد تجاوز أهم العُقد التي حالت دون ختامٍ طال انتظاره، بعد تأخره عن موعده بما يزيد عن ثلاثة أشهر.
وتبقى العقدة الأكثر إثارة للجدل فيما يتعلق بالوثيقة، تلك المتعلقة بتحديد عدد الأقاليم، التي حُصرت بين خياري الاقليمين والستة، أو ما بينهما، كما نصت الوثيقة، وإمكانية حسم عدد الأقاليم في إطار مؤتمر الحوار، أو بالموافقة على تفويض لجنة يشكلها الرئيس برئاسته، لحسم عدد الأقاليم على أن يكون قرارها نافذاً، كما ورد في الوثيقة.
المهم في هذا الأمر أن يتبع الجميع في تقريرهم لعدد الأقاليم، منهجاً علمياً مدروساً، يقيّم منطقية وجدوى الخيارات المتاحة، ومدى ملاءمتها لمعالجة اختلالات الماضي، وضمان عدم تكرار أسبابها، وتحقيق مصالح جميع المواطنين، في جنوب الوطن وشماله، بعيداً عن نزعة الاستئثار والأنانية، التي تزرع بذور الفشل ولا تؤسس لأي نجاح مستقبلي.
لطالما كانت المركزية المفرطة وغياب مبادئ الشراكة ودولة النظام والقانون والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، هي عقدة الحكم وأساس المشاكل والأزمات، ولا بد من التأسيس لمعالجات تتجاوز جذور تلك العقد والمشاكل بتخفف من حسابات الماضي وصراعاته، والانفتاح على عهد جديد من العمل المشترك يتسم بالثقة المتبادلة بين الأطراف المختلفة، والتنافس على أسس ديمقراطية محترمة، وتكافؤ الفرص، وعدم اختزال الدولة في شخص أو حزب أو جماعة، واحتكار مقدراتها لصالحه.
وأن يكون النقاش محتدماً حول خيارات سياسية متاحة، سواء ما يتعلق بعدد الأقاليم أو بنظام الحكم، فذلك لا يعني أن تغيب المسؤولية في تقريرها بعمق ودراية كاملة بكافة جوانبها الإيجابية والسلبية، والموازنة بينها، وصولاً لاختيار أكثرها ملاءمة لمستقبل بلد يحمل عقداً مركبة ومستفحلة، إذ ليست الخيارات في هكذا قضايا متاحة لمسألة التجريب، ومن ثم التراجع لتجريب آخر، خصوصاً فيما يتعلق بعدد الأقاليم، لما يترتب عليها من تشكل لأنظمة إدارية جديدة على البلاد، ومصالح وارتباطات طارئة، يعتبر التراجع عنه ضرباً من العبث والمقامرة بالمستقبل.
وفي ظل النزعات الجهوية والمذهبية المتناسلة، التي تتكتل وتتوحد في مواجهة أخرى موازية، وتتنافر فيما بينها في مستوياتها الدنيا، تكون الخيارات أفضل وأنسبها تلك المقتربة أكثر من الأساس السياسي الذي يذيب العصبيات الأخرى في إطاره، في ظل دولة مواطنة متساوية، فيما الانسياق وراء الهويات بداعي إنصافها، ومحاولة تفريخها إلى ما هو أصغر منها، واعتمادها كأساس لاعتماد الخيارات لن يقف عند مستوى الشرق أو شمال الشمال أو الوسط، بل ربما يغدو متجذراً على مستوى المحافظات والمديريات.
هذا الشعب عانى كثيراً من سوء الإدارة وغياب الدولة والمواطنة، ونزعة الاستئثار بالسلطة والثروة والمصالح، تبددت معها أحلامه بحياة حرة كريمة، يتلمس فيها أبناؤه حياتهم وهمومهم كبقية شعوب الدنيا.
من حق المواطن اليمني أن يفكر بهمومه الخاصة، بتعليم أفضل لأبنائه، بخدمات طبية أكثر أهلية بالإنسان، بفرصة عمل أكثر دخلاً وملاءمة لشروط عيش كريم.. من حقه أن يخطط لمستقبله، ويحظى بحقه في المنافسة على المناصب، اعتماداً على معيار الكفاءة والأفضلية، وممارسة خياراته السياسية ناخباً ومرشحاً بقناعة متى أراد ذلك، دونما خوف من مراكز قوى ونفوذ، وميليشيات مسلحة..
من حقه أن يفكر بمشاكل تؤرق روتينه اليومي كزحمة الطرقات، وحوادث السير، والمنشآت الترفيهية لأبنائه، لا أن يبقى تفكيره مشغولاً وهمه مركزاً على قضايا مهولة ومعقدة من قبيل تمزق البلاد، أو الخوف من شبح الحروب الأهلية، أو الموت بتفجيرات إرهابية وعبوات ناسفة، أو على يد قاتل منفلت يستقل دراجة نارية.
البلاد في وضع حرج للغاية، لا تحسد عليه، وطالما عوّل المواطنون كثيراً على مستقبل مغاير، ترسم ملامحه وفقاً لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني، دفعوا طيلة فترة انعقاده ثمناً باهظاً من أرواحهم وممتلكاتهم وأمنهم كلفة لغياب الدولة وهشاشة أجهزتها، ومالم تؤسس تلك المخرجات بكافة تفاصيلها لدولة محترمة تحفظ أمن المواطن وكرامته وتحقق حداً مقبولاً من مصالحه، وتضمن له العدل والمواطنة، فإنه سيكفر بالتغيير بالخيارات السياسية وبالدولة برمتها، وسيكون من الصعب إقناعه مجدداً بتجريب تلك الخيارات مرة أخرى، وسيكون الأقرب إليه الارتهان إلى المشاريع المسلحة المتخلفة المنتمية إلى عصر ما قبل الدولة التي تتطاول في غير منطقة هذه الأيام، ولن تقوم بعدها للدولة قائمة حتى حين، وبالتالي فلا مجال للأنانية والتردد بين خيار الدولة والمواطنة وما قبلها.
saminsw@gmail.com