يحكى أن مجنوناً قدم من زبيد إلى منطقة ريمة ذات المباني التي تقع في القمم العالية للجبال، أحتشد أهل القرية واتفقوا على أن يضعوه في أحد المنازل وتناوبوا على حراسته خوفاً عليه من أن يلقي بنفسه من أعلى الدار، تركوا أعمالهم وتفرغوا لتقديم الغذاء واحتياجات هذا المجنون، وكلما شعر المجنون بأن أهل القرية بدأوا يقصرون في توفير متطلباته هدد بأنه سوف يقفز من أعلى البيت، وذات يوم كان في حراسته أحد أهل القرية من الذين ملوا من انتهازية المجنون ومطالبه المبالغ فيها.
طلب المجنون من الرجل أن يحضر له قاتاً ولحماً وإلا سيقفز، كان الرجل قد وصل إلى حد الملل من هذه المطالب المتعسفة فما كان منه إلا أن قال له اقفز فنظر المجنون إلى الأسفل ثم تراجع.
هذا هو حال بعض الحراكيين الذين أوقفوا حركة البلاد والعباد واستخدموا كل وسائل الابتزاز، وكلما تحقق لهم مطلب تعسفي طالبوا بالمزيد، وإلا هددوا بالانفصال، اعملوها الله يرضى عليكم، هؤلاء لا يملكون من أمرهم شيئاً، انظروا إلى قياداتهم التي لم تكن إلا من سقط المتاع السياسي ذات يوم، وأصولهم الفكرية والنفسية تعود إلى ستينيات القرن الماضي، أما تجربتهم العملية فلم يتجاوز كثيراً عقدي السبعينيات والثمانينات من القرن ذاته، البعض يبايع علي ناصر محمد، والبعض الآخر يبايع علي سالم البيض، بينما جيل الشباب يتحول إلى حطب توقد به معارك الخصوم عام 1986م.
إن هذا الجيل من القادة الحراكيين يقوم تفكيره على مجموعة من المفردات يمكن جمعها تحت عنوان بسيط هو صراع الجبهة القومية وجبهة التحرير، وأعداء فيما تبقى من السنوات، ورغم أن العداء حاد بين الطرفين إلا أن المنظومة الفكرية لا تختلف كثيراً.
وإذا ما انتقلنا إلى بعض القيادات السياسية المتواجدة في الحوار والتي تمثل مكونات سياسية مختلفة لا تختلف منظومتها الفكرية عن القيادات الحراكية من حيث الزمن أو التوجه، فمنهم من يدير علاقة مكتسبة بين الدين والدولة، ومنهم من يعادي إسرائيل والغرب طوال النهار، ثم يطلب ودهم مع حلول المساء، وآخرون يحملون الكارثة الكبرى، فهم لا يعرفون ماهو المستقبل، وأفضل ما يقدمونه من وجهة نظرهم هو تقسيم اليمن إلى أقاليم والمطالبة بمعالجة كل آثار الحروب والانقلابات والنهب العام والصراعات الحزبية، وهم يعرفون جيداً أنهم سوف يتلقون الميزانيات الحكومية، وسيقفلون الأبواب أمام من لا عمل له واستنزاف الموارد الحكومية، لم نكن بحاجة إلى إضاعة كل ذلك الوقت والمال في الحوار أسس لتمزيق اليمن وعزز الهويات الجهوية والمناطقية والمذهبية، كما أننا لم نكن بحاجة إلى تلك الدماء التي أريقت، وإلى ذلك العنف الذي يجتاح المناطق الجنوبية والشرقية والحرب المستعرة في المناطق الشمالية، بقدر ما كنا نحتاج إلى إعلاء حقوق المواطنة المتساوية في الحياة والحرية والكرامة والسعادة.
لقد عزز مؤتمر الحوار الفجوة بين القوى السياسية المختلفة وأصبح الحوثي على استعداد للخروج على جماعة السلفيين والعكس صحيح، وكذلك خروج بعض فصائل الحراك على الدولة والإصلاح على المؤتمر الشعبي العام والعكس أيضاً صحيح مالم يحقق كل طرف مطالبه على الآخر، فكل طرف يعطي لنفسه الحق في استخدام الفيتو مالم تتم الاستجابة لطلباته، بينما القتلة يفرضون آراءهم على البلاد كلها وعدد القتلى يتزايدون كل يوم والشباب توقفت معلوماتهم عند 18مارس 2011م.
ويبدو أن ما يجري من أحداث لم تقنع القوى السياسية المختلفة في أن تراجع نفسها وتضع مصلحة البلد وأمنه فوق كل اعتبار، لم تؤمن بعد هذه القوى أن طبيعة الحياة تحتم عليها الإيمان بتعددية الآراء والمواقف وأن المصالح متعددة، كما أنها لم تؤمن أن الحلول الوسط هي التي تساعد على المضي قدماً نحو الأهداف، وهي تعني أن أحداً لا يحصل أبداً على كل ما يريد وإنما بعض منه.
أعتقد أن الوقت ليس زمن الاحتفال وتهنئة الذات بمخرجات مؤتمر الحوار، وإنما هو وقت التأمل ومراجعة المواقف التي قامت على عدم الاعتراف بالآخر ومصادرة حقه في الحقيقة حتى لا نخفق مرة أخرى، وليس عيباً أن تراجع هذه القوى مواقفها فيما يتعلق بالدولة الاتحادية وتستعين بخبراء من الجامعة العربية ليقدموا دراسة علمية في شكل الدولة التي نحتاج إليها، حتى تستطيع هذه القوى أن تنقذ البلد والشعب من مصير يقوم في الأساس على المكايدات السياسية من ناحية والعجز عن إيجاد حلول من ناحية أخرى.
يحتاج الشعب اليمني إلى تحقيق أهدافه في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وهذا لن يتحقق في إطار التنازع والتجاذب والتهديد بين الفرقاء السياسيين.. لا أدري كيف سيكون وضع اليمن في الأيام القادمة، ولا يسعني إلا الدعاء ليس برد القضاء وإنما اللطف فيه.