الإنسان اليمني شغوف بالتحدث في الشأن السياسي والاقتصادي وباستمرار ولو لم يكن متخصصاً في هذا المجال، حتى إن تداوله للمشاكل السياسية الدولية يأخذ حيزاً كبيراً في نقاشاته، رغم أنه بعيد عن مكان الحدث أحياناً، فلا تستغرب إن حضرت مجلساً بوجود القات أو بغيابه وسمعت نقاشاً في المسألة القبرصية مثلاً أو في مشكلة دارفور التي لم استطع فهم خفاياها حتى الآن أو حتى في قضية الصحراء الغربية.. أما الشأن المحلي فيتم تداوله في كل جلسة مقيل وفي كل النقاشات والمداولات والمناسبات الاجتماعية.. وأخيراً دخل المجتمع اليمني في نقاشاته وحواراته من خلال النت والمنتديات الإلكترونية والصحف وكل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأصبح الرأي اليمني موجوداً مع هذه التكنولوجيا خارج الوطن الصغير وذهب البعض إلى مناقشة الشأن اليمني في وسائل إعلامية ـ غير يمنية أو عربية ـ لا تُكنُّ لليمن أية محبة واهتمام إنما يأتي اهتمامها بقضايا اليمن المحلية كنوع من الإثارة وصب الزيت على النار.
والحقيقة، ولطيبة أهل اليمن فإن هذه الخدع الإعلامية تنطلي عليهم بل انطلت على الكثير منهم لغياب الفطنة السياسية هنا وينسون أن الإعلام الخارجي يزيد من آلامهم ويضاعف تأزمهم فيما بينهم البين ويوسّع من فجوة اختلافاتهم بدلاً من مساعدتهم، يحصل ذلك تنفيذاً لأجندة غير يمنية وللأسف لا يفقه الكثيرون ذلك .
وسائل الإعلام بمختلف اتجاهاتها قد التقطت الإشارة إلى أن الشعب اليمني يكاد يكون هو الشعب العربي الأول المسيّس منذ نعومة أظفاره وهذه نقمة وليست نعمة والحق يقال، لأنها أشغلت الشباب والناس عن مصالحهم وأهدافهم ومستقبلهم وأخذت السياسة حيزاً كبيراً من حياتهم وصل إلى حد أن البعض يقتتلون ويتناحرون من أجل موقف سياسي والمصيبة أنه ليس دفاعاً عن الوطن بل تعصب لمواقف سياسية .
وأثرت تلك المواقف العنترية والمتشددة والمتطرفة على العقل وتفكيره وانحيازه نحو المصلحة الشخصية على حساب المصلحة الوطنية والوطن وعموم الشعب وذهب المتخاصمون إلى درجة التآمر على بعضهم البعض نكاية بالطرف الآخر فقط مهما كانت التبعات والعواقب ووصلت النتائج في بعض الأحيان إلى تفجير الموقف عسكرياً، ولنا في التاريخ الماضي عظات وعبر كان آخرها أحداث 13 يناير وحرب الانفصال عام 94م.
جموع المثقفين والكُتاب وصفوة السياسيين والإعلاميين يجمعون على أن الحوار والنقاش والتحاور أياً كانت الاختلافات أفضل كثيراً من أن نوصل البلاد والعباد إلى أزمة قد تصل بنا إلى خط اللارجعة.. رغم قناعتي الشخصية أننا لن نصل إلى هذه الدرجة من الاحتقان، لكن المتتبع لما يجري من دعوات للحوار يرى بوضوح أن السلطة السياسية للبلاد تقدم مثلاً راقياً في الطريقة الشوروية للحكم رغم ما تمتلكه من أسس قانونية ودستورية تدعم عدم ضرورة تقديمها لبعض التنازلات، لكن إصرارها على ضرورة إجراء الحوار الوطني ليشمل أكبر شريحة ممكنة من المواطنين ذوي الاتجاهات الفنية المتعددة من منظمات ونقابات وجامعات ومؤسسات مجتمع مدني وأحزاب وشخصيات اجتماعية بارزة يثبت أن السلطة والقيادة السياسية بالفعل يهمها الاستماع إلى الرأي الآخر مهما اختلفت معه وهذه ركيزة مهمة من ركائز الحكم السليم، ولم يكن هذا الإصرار من باب الدعاية بدليل تأجيلها انعقاد هذا الحوار أكثر من مرة حرصاً و سعياً منها على أن يشارك فيه أكبر عدد من ممثلي الشعب .
وطبيعي أن الدولة ستواجه بمن يشكك بالحوار وبمن لا يصدق أن هناك حواراً سيحصل وبمن لا يريد أصلاً إجراء حوار ونقاش لأنه في هذه الحال لابد أن يقول رأيه ورؤيته ووجهة نظره وأسس اختلافه أو خلافه مع السلطة فماذا عساه يقول أمام كل هؤلاء الشهود والذين هم فعلاً يمثلون النخبة من الشعب بكل فئاته وتنوعاته أكثر من ممثلي مجلس النواب ؟ في هذه الحال ستنكشف كل الأوراق أمام كل الناس وكل سيقول كلمته أمام الجميع، حيث لا مجال للتصريحات والبيانات التي تصدر بين فترة وأخرى، حيث سيتم وأمام كل تلك الجموع من أفراد الشعب والممثلين له معرفة أسباب رفض البعض مسألة الحوار والنقاش والتحاور، بل وربما أمام عدسات التلفزة وكاميراتها لتكون شاهد إثبات لكل كلمه تقال.
صراحة لا أفهم أية تبريرات أو أسباب أو تفسيرات لرفض الحوار الوطني إلا إذا كان الرافضون لهم أجندة خارجية أو أجندة هم على ثقة أن الشعب سيرفضها، أو أنهم يعلمون أن أجندتهم مخالفة للثوابت والدستور ولا يريدون أن تنكشف عوراتهم أمام الملأ، وعليه يجب أن يعرف هؤلاء أن هذا الشعب لن يمرر رفضهم المشاركة في الحوار الوطني دون أن يشبعه تحليلاً وتفسيراً وسيصل في النهاية إلى قناعة بأن هؤلاء الرافضين للحوار رغم كل تلك التنازلات المقدمة لهم لديهم أجندة غير وطنية وغير شريفة يسعون للوصول إليها ولو على حساب الوطن وكل مكاسبه .