الحرب من العلامات الكبرى التي تستوجب على الدول والمجتمعات التي اختبرت ويلاتها الوقوف أمام أسبابها وتداعياتها استخلاصا للدروس وتعميما للعبر، ولا يجوز تحت أي ظرف من الظروف، ان تمر دون تحقيق واف في الأسباب وتحديد دقيق للمسؤوليات ومعالجة شاملة للتداعيات ، وتوقف دانات المدافع في ميادين القتال لا يعني انتهاء الحرب، بقدر ما يؤذن باشتعال أوراها في ميادين أخرى وفي المقدمة ميدان السياسة.
وفي الحالة اليمنية فإن مؤشرات يصعب التهوين من شأنها تؤكد حدوث حالة انقطاع بين الأداء الكفؤ لمؤسسات الدولة في إدارة الحرب ميدانيا وسياسيا، وبين امتلاكها لرؤية الإدارة مرحلة ما بعد الحرب مستوعبة في برامج للتعامل مع أسبابها ونتائجها ممتدة في المستقبل توفير أيقونة الفارس النبيل، والرغبة في تمثل نموذجه، حالت بين مؤسسات الدولة وفرص إنجازها لكامل أهداف الحرب في مستوياتها المختلفة. ومثلما كان متوقعا فأن سنوات قليلة تلت الحرب، كانت كافية لاستحضار أسئلة غيبتها مفاعيل ميادين القتال، وهي أسئلة لا يقدم ما هو معروف من تاريخ الحروب استثناء لها، تتصل بمشروعيتها وأهدافها، وكذا المسئوليات الأخلاقية والقانونية لإطرافها.
قرار العفو العام غير المشروط الصادر أثناء الحرب، وقبله نموذج المعالجات لحالات العصيان التي جرت في (لواء المدرعات/ حرف سفيان، لواء باصهيب/ ذمار)، ساعدت ضمن أمور أخرى، في استيفاء أفعال وممارسات تعرض كيان الدولة للضرر الجسيم بعيدة عن فعل القانون المادي والمعنوي، كما ساعدت في نشوء وضع يتقابل فيه طرفان، الأول لم يدرك وإلى اليوم بصورة جدية تحريم القانون لأفعاله والثاني يفتقر للقدر الضروري من الإرادة في توظيف ما يجوزه من شرعية قانونية وأخلاقية لصالحه.
افتقار قرار العفو للشرطية قد جرده من القوة الكامنة فيه وحجب الآثار المعروفة عنه تقليديا في مثل هذه الأوضاع، فعموميته التي ساوت بين الآباء المؤسسين لمشروع إعادة النظر في كيان الدولة والملتحقين من القادة السياسيين والعسكريين، وبين الفئات التي دارت في رحاه دون وعي أو مصلحة، قد أبطلت أثره المتوقع أثناء الحرب في انصراف المسئولية وما ينبني عليها من أثر رادع، إلى من بيده قرار إلقاء السلاح، في حين إن سريان مفعوله دونما أجل مسمى قد أبطل هو الآخر وأثره المتوقع في دفع الفئات عديمة المصلحة بالمشروع للكف عن نصرته.
وعدى ما تقدم فإن أسئلة كثيرة تترتب على قرار العفو العام وترتد إليه، ويتصل بعضها بالمدى الذي تغطيه القوة القانونية للقرار في مجموع الحقوق المدنية والسياسية للأفراد المشمولين بنفاذه، وبعضها الآخر يتصل بالمسئوليات القانونية الاعتبارية/ الشخصية للأطراف المتورطة في الحرب، فعلى سبيل المثال فأن الحزب الاشتراكي اليمني باعتباره مؤسسة تحوز الصفة الاعتبارية، ويمارس نشاطه في نطاق قوانين تكفل له حقوق وتلقي عليه مسئوليات معروف حكمها فيما يخص وحدة كيان الدولة، قد أستأنف نشاطه مبقيا موضوع الحرب بكل ثقله خارج أجندته، كما لو أن أحداثها جرت في عالم آخر لا ينتمي إليه.
كل ذلك ألقى بظلاله على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية التي استسلمت لحالة انتظار، صرفتها عن إعداد برامج مواجهة لمعالجة الأوضاع الناجمة عن حدث كبير ـ كحدث الحرب- بداخل مؤسساتها وخارجها حصرا لأثارها المادية والبشرية ، وتصنيفا لها، واقتراح بدائل حلول، على المستوى المهني والسياسي ضمن خطة عامة للإصلاح وإعادة الهيكلة وتحديدا في المؤسسات الدفاعية / الأمنية.
إن الشلل الذي أصاب مؤسسات الدولة المعنية، في استدراك تداعيات ملف خطير، تراخت في استبقاءه في قائمة أولوياتها، سهل اقتيادها للسير في متاهة أسئلة مؤجلة، بعضها معروف وبعضها الآخر مستجد.
ما أستجد منها، هو أن جيلا شهد الحرب دون العاشرة، يجلس اليوم في مدرجات الجامعة، لا تعينه ذاكرته في الوقوف على حيثياتها وملابساتها، لكن بعضا من مشاهدها قد يرشح اقتراضا دون عناء، كمشهد الآليات العسكرية يركبها جنود بسحنات مميزة.
وعلى المنوال ذاته، فأنه من المرجح ان قسما معتبرا من الجنود والضباط الضالعين في الحرب لم يتسنى له حتى اللحظة تبين حقيقة وضعه القانوني وتكييفه الجنائي وفقا وأحكام قانون الخدمة العسكرية، مثلما نرجح بأن ما من جهة رسمية كانت أو غير رسمية ، قد أخذت على عاتقها مهمة توضيح هذا الأمر قولا أو فعلا، سندنا في ذلك سلوك، "جمعيتهم" في حكمة العام.
وفي الوقت الذي أنكفأت فيه الدولة بما فيها مرجعياتها الأعلى وصوتها الرسمي (الإعلام المرئي والمسموع والمقرؤ)، وكفت تدريجيا عن تأكيد توصيفها الرسمي للحرب، باعتبارها حربا انفصالية، فان الإعلام المعارض وفي المقدمة إعلام الحزب الاشتراكي ومناصريه تخلى هو الآخر عن توصيفه الخاص بها، باعتبارها "فتنة" أو "كارثة" وأنزاح به إلى أمام، لتغدو حربا "ظالمة" أو "حربا على الجنوب".
هذا التراخي من جهة والاجتراء من الجهة الأخرى، إزاء "موضوعة" الحرب على المستوى المفهومي والدلالي، يعد الحلقة الأخيرة في مسلسل إنكفاءات مؤسسات الدولة، تحرر طرف الحرب الآخر مما تبقى من قيود المسئولية القانونية والأخلاقية تجاهها، ومعه تهاوى بقية من إطار حكم ضمن حركتها لفترة لم تطول بعد الحرب.
أنه ومن الخطورة بمكان، أن يترك "الخصم" في أية حرب ليختار ألفاظه بشأنها، وأن يخلع على أحداثها ووقائعها توصيفاته،بإستيهام أنها مفردات تقبل المبادلة بين المتشابه منها، بعيدا عن دلالتها المفهومية حيث يكمن جوهرها. ذلك أن اللفظ هو"دال" يختزل وجهة النظر في "المدلول" وتتكثف فيه صور واعتقادات يراد لها أن تسود بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
قدمت الدولة في سلوكها العام الذي سبق وتلى لحظة الحسم العسكري، نموذجا يتجاوز كل الاعتبارات السياسية والقانونية للحروب، أتيحت فيه الفرصة لطرف ضالع في الحرب، أن ينسل مبتعدا عن "قفص الاتهام" ليعتلي "منصة الإدعاء العام" وبالقدر الذي أنجزت فيه هذه الحرب مهمة الحفاظ على كيان الدولة موحدا وحاصرت خسائرها المادية والمعنوية إلى أبعد حد، وبددت ماديا فرص تعرض كيانها الموحد في المستقبل المنظور لمغامرات شبيهة، إلا أنها ولقصور أعترى إدارة نتائجها، أضاعت فرص دانية لكسب مستحق بالغ الأهمية على المستوى السياسي والقانوني والأخلاقي.
وفي المحصلة النهائية، فأن حكماً جمعيا بشأن حرب 94م تتوافق عليه كافة مكونات المجتمع، ويقرر وضعها القانوني لم تستوف شروط إنجازه بعد، بما يبرر الظن بإمكانية الحزب الحاكم الاستمرار مستقبلا في دفع ملف الحرب بعيدا عن صدارة اهتماماته، إلا إن كان بمقدوره تحمل معايشة لحظة مره، ومصابرة وضعا استثنائيا فيها "التاريخ لا يكتبه المنتصر".
وفي ضوء ما تقدم نقترح دراسة الخيارات الثلاث التي نعرضها على النحو التالي:
1- أن تشتمل أجندة الحزب الحاكم في الحوار مع المعارضة، وعلى الخصوص مع الحزب الاشتراكي اليمني، على "موضوعة" الحرب وضرورة التوافق بشأن وجهة النظر إزائها، سياسيا وقانونيا، وقبل ذلك المستوى المفهومي، تنتهي بوثيقة ملزمة تضع حدا لمحاولات توظيفها سياسيا، من قبل فرقاء العمل السياسي وتنمط التعريف بها لدى جيل الأبناء في المستقبل، لاعتبارات حماية السلم الاجتماعي وتمتين مشاعر الأخوة في الوطن. 2- أن يعلن الحزب الحاكم وعبر وسائل الإشهار الممكنة وبقرار من أعلى هيئاته التنظيمية عن استعداده لإحالة ملف الحرب إلى هيئة قانونية/ دستورية مستقلة يتشكل قوامها من خبراء واختصاصيين في اليمن وخارجه مخولة بالبث في ملف حرب 94م وفقا ونصوص القانون اليمني، ويلزم حكمها قانونا كافة أطراف العمل السياسي، مثلما يبطل في الوقت ذاته فعل كل القرارات والإجراءات المتخذة أثناء وبعد الحرب، بما فيها قرار العفو العام وما يرتد إليه ويتفرع منه، ويتحدد في هذا الإعلام أمد معلوم يقوم الحزب الاشتراكي اليمني أثناءه بتبيان موقفه منه بصورة رسمية. ومع التسليم بأن اعتبارات التقادم لواقعة الحرب، تجتزئ بعضا من "عمليانية" هذا المقترح، غير أن تلويح الحزب الحاكم به، قد يتيح له استدراك قدرا من روح المبادرة تجاه موضوع الحرب هو في أمس الحاجة إليه ويمهد له اختراق سياسي/ أخلاقي من نوع ما، أذهبت بقدر مهم من رصيده فيها "مروة" حرص على التمسك بها.
3- أن يعمد الحزب الحاكم على تصميم برامج واسعة النطاق يستعين في إنجازها بأفضل الخبرات المتاحة في إطاره ومن خارجه، موجهة لإبطال إدعاءات الخصوم السياسيين بشأن الحرب وإجلاء حقيقة ما تقدم وما تأخر من ملابساتها.
*نقلاً عن صحيفة أخبار عدن