في العصر العباسي كان النواح فنّاً، وكان في كل مدينة عربية فِرقٌ من النائحات، دمشق بالذات اشتهرت ببراعة النائحات وفخامة المناحات، ومناسبتها لكل طبقة، كانت النائحة تُستأجَر بعدّة دراهم لتبكي وتصرخ وتملأ الدنيا عويلاً على الميت الذي لا تعرفه، أما إذا زادت على ذلك، فشقّت ثيابها، وحثّت الرمل على رأسها؛ فأجرها يرتفع إلى الضعف، كان بعضهن يتقلبن في التراب ويحاولن قذف أنفسهن في ضريح الميت، وهؤلاء يتسلّمن ثلاثة أضعاف الأجر..!!.
هذا يعني أن النواح حرفة عربية قديمة، وأن العرب بارعون في تقمُّص الحزن والتظاهر بالبكاء، دون أن يعني هذا حُكماً أو تعميماً من أيّ نوع، فهم كغيرهم يبكون ويحزنون بصدق ومرارة حقيقية لمصائبهم ومصائب الآخرين.
لكن النواح حتى في أعلى درجاته صدقاً وإخلاصاً، لا يعيد القتيل، ولا يردع القاتل، وبالمناسبة يعرّف علماء الجريمة أن المجرم يتلذّذ بألم الأهل على فقيدهم، ويطرب لأصوات النواح ومشاهد البكاء والمآتم الحافلة، إنه يعتبرها بمثابة مكافأة معنوية مناسبة لجريمته..!!.
- هل يعني هذا أن الشعب اليمني، أو غيره من الشعوب الإسلامية المبتلاة بالإرهاب، بدموعهم ونواحهم على أبنائهم وأحبائهم الذين يسقطون في عمليات إرهابية - يكافئون في كل مرّة الأيادي الإرهابية التي ذبحتهم كالنعاج بلا رحمة وبدرجة عالية من السادية والبشاعة..؟!.
في الواقع نعم، الإرهابيون أنفسهم يصوّرون أغلب جرائمهم بمشاهدها البشعة، ويتيحونها للإعلام ليشعروا بتلك النشوة الهمجية لردود الأفعال النازفة من قبل الشعب، هذا الشعب المقصود بالإرهاب، هو «عدو الله وعدوّهم» كما يزعمون.
لم تكن جريمة «القاعدة» في حضرموت هي الأولى، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة، سيستمر مسلسل الذبح وتتواصل العمليات الإرهابية طالما أن المجرمين يُكافَأون في كل مرة بما يريدون، مجرد الحزن والغضب والصراخ والاستنكار لن يوقف هذا الجنون.. تعالوا نبدأ بفعل شيء مختلف، ونتجاوز الانفعال إلى الفعل، أبناؤنا عُرضة دائمة لأن يصبحوا إما إرهابيين أو ضحايا للإرهاب، وفي الحالتين هم ضحايا للفكر المتطرّف الذي استحوذ على الدين، وزجّهم في المشهد المرعب بين جناة وضحايا.
لا شيء يمكن أن يوقف الإرهاب غير تجفيف منابعه ومجابهته حيث الأوكار والمرجعيات والأصول، هناك في الجامعة والجامع والصحيفة والتلفزيون والانترنت، حيث الخطاب المتطرّف يحاول بكل إمكاناته استقطاب الشباب وإقناعهم أن العنف من الدين، والقتل من الله، والجريمة جهاد مقدّس..!!.
الإرهاب قبل كل شيء فكر، والفكرة الإرهابية أخطر من كل الإرهابيين، ومن كل السموم التي ابتكرتها الطبيعة والأسلحة التي اخترعها البشر.
sadikalkadi@gmail.com