ستفتقد الثقافة والفكر العربي والأممي شخصية نزيهة وصلبة وذات احترام كلّي، بينما شكّل تجربة شعرية بارزة لها طابعها النوعي المتفرّد في المقاومة والعشق على مدى عقود.
أتذكّر الآن قصائده القديمة عن صنعاء وعدن «لأكثر من سبب ولأكثر من حنين أيضاً..!!» مع أنها ضمن عديد قصائد صاخبة له غير متوافقة مع ذائقتي، ومع ذلك لا أملك سوى أن أقدّرها دون تحفُّظ، ثم إنها أنتجت مرحلة ارتفاع النبرة المباشرة في الشعر العربي الحديث “وتسيسه” مرحلة الستينيات خصوصاً وشيء من السبعينيات، وهي مرحلة لها خصوصياتها وظروفها الاستثنائية شديدة التأثير على مستوى النص بكل المقاييس، إلا أن سميح القاسم - نجح رغم كل شيء ولو بطيئاً مقارنة بدرويش مثلاً - في تطوير شعريته ورؤاه إلى حد مبهر.
وأما بشكل خاص وحميمي فإنني أعتزُّ بتقديسي لرسائله مع محمود درويش متلاقحة مع رسائل الأخير له والعكس، في حالة هارمونيكية متناغمة تصاعداً وهبوطاً وامتزاجاً وافتراقاً في إثارة المعنى وإبعاده داخل النقاش الفلسفي والجمالي والإبداعي والوطني والإنساني والعاطفي... إلخ.
ذلك الكتاب الأيقونة الذي يخلّف أثراً لا يمحى في الوجدان والوعي ولا يستجدي تصفيق الجماهير التي تتلذّذ باستلابها كينونة المبدع العميقة فقط..!!.
هناك حيث الادهاش المتجلّي والناضج لهمس غريبين كونيين عظيمين كسميح ودرويش، هناك حيث المرآة الحقيقية لذروة تجلّيات مبدعين كبيرين إنسانياً، وشاسعين في وعيهما بالذات والآخر، كما بفلسطين تاريخاً وهوية وجغرافية وقضية ومصيراً، فضلاً عن تمجيدهما للإنسانية كهويّة، وبالتفاصيل الصغيرة في هذه الحياة العابرة التي يجب أن نحياها كنشيد كرامة وسلام وحرية بكل أخلاقية قيمية يميّزها اتساقها المكابد بأفقها الإنساني اللا محدود والمقاوم للشر وللهيمنة وللتوحش وللاستغلال وللا عدالة في هذا العالم.
إلى ذلك يقفز في خاطري الآن اعتزازه المتفوّق بأنه من نسل القرامطة الذين هاجروا إلى الشمال واستقرّوا في فلسطين، فأتذكّر روح جدنا علي بن الفضل الذي تعرّض للتشويه الممنهج واللا معقول من قبل المعتوهين والحمقى الذين سطوا على التاريخ وزيّفوه، كما أتيقن في المقابل من أن الروح الأصيلة والواسعة للشيوعي الكبير سميح القاسم لم تأتِ من فراغ أبداً.
سميح القاسم الذي كان «أشد من الماء حزناً» ونبالة بالتأكيد لا يموت، لا يموت في ذاكرة الهم الفلسطيني على الإطلاق.
fathi_nasr@hotmail.com