لا أدري لماذا كلما سمعت أن "حواراً" يجري أو سيجري بين أطراف عربية، سواء على المستوى المحلي الوطني أو على المستوى القومي، وسواء كان الحوار بين السلطات والقوى السياسية أو بين القوى السياسية وبعضها، تغالبني ابتسامة ثم تغلبني؟ لعل السبب يكمن في السوابق، فلا الحوار الفلسطيني - الفلسطيني أنتج شيئاً إيجابياً على الرغم من سنوات عمره، ولا الحوار اللبناني - اللبناني انتهى إلى نتائج نهائية حول القضايا الأساسية، ولا الحوار العراقي - العراقي، ولا الحوارات التي تجري في أروقة الجامعة العربية حققت شيئاً . الأنكى من ذلك أن تلك الحوارات كثيراً ما عقّدت المشاكل التي يعقد الحوار لحلها . أما إذا وقعت المعجزة وانتهى الحوار إلى اتفاق، فسرعان ما يتبين أنه لا يلزم أحداً، أو أنه لم يوضع بهدف التنفيذ .
في السابع عشر من يوليو/ تموز الجاري تم الاتفاق بين حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في اليمن وبين تجمع أحزاب المعارضة البرلمانية المعروف باسم "اللقاء المشترك"، على "محضر آليات" لتنفيذ اتفاق سابق تم التوصل إليه برعاية الاتحاد الأوروبي في شهر فبراير/ شباط ،2009 نص على تأجيل الانتخابات النيابية التي كان مقرراً لها أن تجرى في إبريل/ نيسان من العام نفسه مدة سنتين، وأن يتم خلال الفترة حوار وطني شامل لتعديل الدستور والنظام السياسي وقانون الانتخابات . وفي الفترة المنقضية من السنتين لم يطرأ شيء بالنسبة لإطلاق الحوار الشامل بل شهد اليمن حروباً ومعارك هددت، ولا تزال، تهدد الوحدة اليمنية .
الاتفاق الجديد، كما يدل عنوانه، ليس أكثر من "محضر" حول "آليات" تفعيل "اتفاق فبراير" الذي لم يفعّل حتى الآن . حتى الآن لم تتضح تلك الآليات، باستثناء أن الحوار "لن يستثني أحداً" . وكان الرئيس اليمني قد بادر إلى دعوة للحوار نهاية العام الماضي مستثنياً أطراف "الحراك الجنوبي" وجماعة الحوثيين، لذلك انتهت "المبادرة" عند حدود الدعوة . لاحقاً، أعلن الحزب الحاكم أنه سيجري الانتخابات في موعدها حتى لو ذهب إليها منفرداً، وهو ما فهم منه رسالة إلى أحزاب "اللقاء المشترك" للضغط عليها، فإما أن تشارك أو تتحمل وزر التأجيل الجديد المحتمل، وهو ما رأى البعض أن السلطة كانت تريده .
مهما يكن الأمر، فإن السؤال هو: هل الموضوع موضوع الانتخابات؟ إن كان كذلك فالمسألة لا تستحق الجهد، لأن الموضوع الحقيقي هو مشاكل اليمن السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمسك به من كل جانب . لذلك يصبح السؤال: هل الاتفاق على "محضر الآليات" سيوفر الظروف المطلوبة ليس لإجراء الانتخابات فقط، بل أساساً للبدء في معالجة مشاكل اليمن جميعاً؟
أولاً، إذا نظرنا إلى مطالب "اللقاء المشترك" قبل الاتفاق الأخير، نجد أن مطالبه الحالية كلها تتعلق بالانتخابات: بالقانون واللجنة، ونظامي الدائرة والقائمة النسبية .
ثانياً، بالنسبة لجماعة الحوثيين، أكد المتحدث باسمهم، محمد عبدالسلام، ترحيبهم ب"محضر الآليات"، واعتبر أنه "يفتح الباب أمام مشاركة الجميع من دون استثناء في الحوار" . كذلك جاء في بيان وقعه زعيمهم عبدالملك الحوثي: "نعبر عن ارتياحنا ودعمنا للاتفاق، الذي يهيئ الخطوات لإجراء حوار شامل لا يستثني أحداً"، لكنه طالب في البيان "بإنهاء كل ظروف الحرب ومخلفاتها لتطبيع الوضع السياسي" و"الوفاء بالتزامات إطلاق جميع المعتقلين من دون تأخير أو استثناء، والبدء فوراً بإعادة الإعمار (في محافظات صعدة والجوف) وتعويض المتضررين وإيقاف الاعتقالات وعودة الموظفين والمنقطعين إلى أعمالهم" .
ثالثاً، أما بالنسبة لأطراف "الحراك الجنوبي" فقد أعلن أحد قادتهم أن الاتفاق "لا يعنيهم"، وأنهم سيواصلون "نضالهم" حتى الحصول على الاستقلال . ذلك يؤكد أن الأساس هو أن موضوعات الحوار والانتخابات يجب ألا تكون أكثر من بند واحد على الطاولة، ويمكن اعتبارها إحدى الآليات .
ومن المؤكد أنه من أجل عقد الحوار المطلوب، لا بد من إطفاء النيران على مختلف الجبهات التي منعت عقده حتى الآن . فمن جهة جبهة "اللقاء المشترك"، يبدو الأمر سهلاً لو أرادت السلطة، ولا يحتاج إلا إلى عقد الحوار والبدء في مناقشة الخطوات المطلوبة لتصحيح الأوضاع . ومن جهة جماعة الحوثيين، أيضاً ليس الأمر صعباً، حيث إن من المنطقي أن تزال آثار الحرب الأخيرة من أجل بدء صفحة جديدة ومناقشة ما يتوجب عمله لمنع تكرار ما وقع في مسلسل حروب صعدة . أما المشكلة الحقيقية في وجه مشاركة الجميع في الحوار فتتمثل في موقف "الحراك الجنوبي"، الأمر الذي يفرض على السلطة التفكير في السبل الكفيلة بإقناع الجنوبيين بالانضمام إلى طاولة الحوار، ومن ثم طرح مطالبهم للنقاش والتفاهم على حلول حقيقية وواقعية في الوقت نفسه . وعلى الجنوبيين أن يقتنعوا بالرأي القائل إنهم "قد يتمكنون من دفع الدولة اليمنية الموحدة إلى الانهيار، لكنهم لن يتمكنوا من إقامة دولة الجنوب السابقة على كل أو حتى على جزء من أراضي الجنوب"، والمؤكد أنه لا أحد في اليمن له مصلحة في انهيار دولة الوحدة .
مستقبل اليمن اليوم أصبح بين الحوار وآلياته، ونأمل بأن تكون هذه الآليات صالحة للمّ شمل اليمنيين وإيصالهم إلى اتفاق قابل للتطبيق ينقذهم وينقذ اليمن، ويعفي الأمة من كارثة جديدة .
*الخليج الاماراتية: