قبل أيام نشر برنامج الغذاء العالمي أرقاماً مفجعة عن الوضع الكارثي في اليمن، الذي لم تتوقف فيه الحروب عاما واحداً منذ عقود..
تشير تقديرات البرنامج أن عشرة ملايين يمني يعيشون مجاعة حقيقية، ولا يعرفون كيف يدبرون وجبتهم التالية، وخمسة ملايين يعانون بشدة من الجوع وانعدام الأمن الغذائي..
سوء التغذية في وضع حرج، ولأول مرة تحتل اليمن صدارة العالم، في موضع يكشف فداحة الكارثة التي ستعيشها الأجيال القادمة، فمعدلات سوء التغذية لدى الأطفال دون سن الخامسة، في المرتبة الأولى عالمياً، فيما معدلات التقزم وسوء التعذية الحاد دخلت مستوى الخطر، وتقتضي تدخلاً عاجلاً.
هذه الأرقام والمعدلات ليست خيالاً أو تهويلاً، فثمة شواهد كثيرة عليها ويمكن قياسها وتأكيدها ببساطة.
حين ترى مئات وربما آلاف الفقراء يتجمعون هذه الأيام، أمام مكاتب مؤسسات تجارية، أو منازل تجار أو من ينوبهم من القائمين على زكواتهم، يتبادر إلى الذهن انطباع مرعب عن الوضع الذي يعيشه اليمنيون الذين باتت نسبة كبيرة منهم على حافة الفقر المدقع.
يكشف شهر رمضان أكثر من غيره حقيقة الوضع المعيشي المتردي لغالبية المواطنين، ذلك أن عدداً كبيراً منهم يتجرؤون على عفّتهم في هذا الشهر، لأنهم لا يجدون الأمر محرجاً وسط كل ذلك العدد من طالبي الزكاة، إضافة لكون الزكاة فريضة واجبة وهي حق لهم على الأغنياء، خلافاً للصدقات التي هي أقرب للتسول.
وما يحصل عليه المتعفّفون خلال هذا الموسم قد يكون فتاتاً لا يكاد يفي باحتياجاتهم للشهر الكريم والعيد في أحسن الأحوال، مقابل ما قد يتحصل عليه غيرهم من ذوي الخبرة طوال العام، بيد أن كثيراً منهم يكتفون بالبقاء في منازلهم، بانتظار من يصون عفتهم ببعض الزكاة أو المساعدة.
المصائب والمآسي التي تنزل بكثير من الأسر اليمنية، في ظل توفر أسبابها، تضاعف عدد الفقراء والمحتاجين والجوعى، فثمة أسر “مستورة”، تنكشف تبعاً لحادث سير، وما أكثرها، تتسبب في وفاة العائل، أو اصابته، أو نكبته بالحادث كونه مالك أو سائق السيارة، أو تبعاً لإصابة أحد أفرادها بعارض صحي خطير ليس بالامكان علاجه دون انفاق تكاليف باهظة تبيع معها كل أملاكها لعلاجه.. مشكلة هذه البلاد أنها لم تعرف الاستقرار، بل لم تعرف الدولة بمعنى أكثر دقة، ودون ذلك فكل مقومات الحياة المحترمة بالامكان ادارتها بشكل مقبول إلى حد ما.. الدولة غائبة في كافة تفاصيل حياة اليمنيين، وذلك ليس أمراً طارئاً، كما يحاول البعض استغلال ضعف ذاكرة اليمنيين لإيهام الناس أن الدولة كانت في عهد النظام السابق، بل هي منذ ثورات الستينيات..
حضرت الدولة في الجنوب إلى حد ما، وإن ارهقتها صراعات أجنحة الحزب، لكنها وفرت قدراً كبيراً من النظام والانضباط، خلافاً للشمال الذي بدأت نواة الدولة تتشكل فيه في عهد الرئيس ابراهيم الحمدي، لكنها أجهضت باكراً، لصالح مشاريع خاصة صغيرة لا تمت بصلة لمشروع الدولة.
وحين نتحدث عن المشاريع الصغيرة التي اجهزت على مشروع الدولة في اليمن، فلا شك أن نظام علي عبدالله صالح وأسرته، يأتي في صدارتها، إذ هو المشروع الأطول عمراً في الفساد والفوضى.. قوّض أحلام اليمنيين في بناء الدولة، وأهدر عقوداً من أعمارهم وأجيالاً تمتد إلى المستقبل، بإهدار فرص سانحة ليفعل، لكنه أبى إلا أن يحوله إلى مشروع أسرة وحاشية ونخبة متسلطة، ومنتفعة، لم تراع الحد الأدنى من مصالح المواطنين، ما افقده مستوى الرضى والمشروعية الشعبية.
حتى أبرز القضايا التي تعاني البلاد حالياً تبعاتها الكارثية الوخيمة في الجنوب، وأكثر منها الصراعات الجاهلية في الشمال، هي نتاج سياسات ذلك النظام الذي بات يتباكى في الإعلام على المؤامرات المحدقة بالبلاد ورجالها.. صحيح أن النظام والحكومة الحالية تتحملان مسؤولية مآلات الأوضاع وترديها كونها المعنية بإعمال القانون والنظام، لكن لا ينبغي أن ننظر إلى مسؤوليتها بمعزل عن تحديات التحول، خصوصاً في ظل وضع كذلك الذي عاشته بلادنا، وبنيت معه شبكات المنتفعين ومافيا الارتزاق والمتاجرة بمقدرات البلاد وأمنها واستقرارها.
وبنظر المراهقين والمقامرين بمستقبل البلاد من أمراء الحروب، فالتحديات الاقتصادية ليست كافية للفتك باليمنيين، ليغرقوهم بمغامرات دموية بشعة، تضاعف العبء وتزيد الكلفة وتؤخر مسارات التنمية.. أصبحنا نتحدث عن إعمار عمران، وخصصت لها بضعة مليارات لترميم مخلفات الميليشيات المسلحة، ولما ننجز بعد ملفات إعمار سابقة في صعدة وأبين وعزان وبعض أحياء صنعاء وتعز.
لا يمكن لهذا الشعب ان يتعافى بدون استقرار يهيئ ارضية ملائمة لخدمات محترمة، يصبح معه الشعب منتجاً مكتفياً ذاتياً تنحسر أعداد أبنائه العالة على الآخرين.. لا أن يغرق في مزيد من المغامرات التي ترسل أبناءه إلى الآخرة لكأن تلك هي وظيفة الميليشيات على أن تأتي الدولة بوساطتها المهترئة لتتحمل تبعات حماقاتها، وتوظف اليمنيين بعد أن يصبحوا في المقابر، لتسجلهم في قائمة الشهداء وتعتمد لهم راتب جندي.
يكفي ما عشاته البلاد من فوضى وانفلات وحكم مراكز القوى والميليشيات المسلحة، وحان وقت البناء والتنمية وتأمين مستقبل الأجيال.. وكلما تأخر الوقت دون توفير عوامل التنمية والاستقرار كلما دفعت البلاد ثمناً باهظاً من نسيجها الاجتماعي، وتعقّدت مسألة البناء..
كما هو مطلوب التكافل في رمضان، ومواساة الأسر الفقيرة والمتعففة، فإن الاكثر الحاحاً هو ان يشعر اليمنيون بالقلق على مستقبلهم، أكثر من غيرهم، ويحرصوا أن لا يكون جل إسهامهم في تخفيف معاناة اخوانهم هو توزيع الزكاة والصدقات، بل ينبغي أن يؤسسوا لعوامل الاستقرار والتنمية والبناء..
وفقاً للزميل وليد جحزر فمن الصعب أن تتواجد ميليشيات مسلحة في بلد ما تفكر في المستقبل، نتحارب ثم نتحارب وبين كل جولة حرب وأخرى جولات إعمار ونهب.. المشكلة بحاجة لحلول جذرية، استئصال الجماعات المسلحة مسؤولية وطنية واولوية في هذه المرحلة الحرجة.. وقبل اعتماد مبالغ لإعادة الإعمار علينا اعتماد توجه وطني ، لإعمار النفوس بالمحبة ونبذ التعصب والحروب العبثية.
saminsw@gmail.com